شعار قسم مدونات

أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه

مدونات ثورات الربيع العربي

يقال أن "كثير عزة" وهو أحد شعراء العصر الأموي، دخل على عبد الملك ابن مروان، وكان قصير القامة نحيل الجسم، فقال عبد الملك أ أنت كثير عزة؟ قال نعم، قال أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فرد عليه "كثير": يا أمير المؤمنين، كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء علي السناء، ثم أنشأ يقول:

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفـى أثـوابـه أســد هـصـورُ
ويعجـبـكَ الطـريـرُ إذا تـــراهُ ويخلفُ ظنكَ الرجـلُ الطريـرُ
بغـاث الطيـر أكثرهـا فراخـاً وأم الصـقـر مـقــلاة نـــزورُ
فما عظم الرجال لهـم بفخـرٍ ولكـن فخـرهـم كــرم وخـيـرُ
فـإن أكُ فـي شراركـم قلـيـلاً فـإنـي فـــي خـيـاركـم كـثـيـر

رأى الشاب العربي -آنذاك- أن تلك الاحتجاجات التي أطاحت بأنظمة شابت في الحكم، ستكون بداية نهضة واستبشر بها وأمل فيها خيرا.

فقال عبد الملك ابن مروان: لله دره ما أفصح لسانه، وأطول عنانه، والله إني لأظنه كما وصف نفسه. تذكرني هذه القصة بواقع الشاب العربي الذي قرأ كثيرا عن الثورات الاجتماعية والسياسية للشعوب، وتمنى أن تثور الشعوب العربية يوما على حكامها المستبدين، واضعا نصب عينيه الثورة الفرنسية التي ألغت الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية، ورفع الشعب الفرنسي من خلالها ما عرف باسم مبادئ التنوير، وهي المساواة في الحقوق الوطنية والحرية وحق الملكية والأمن ومقاومة الاستبداد والحق في محاكمة عادلة مهما بلغت بشاعة الجريمة وظروف التشديد، ووضعت أسس الديمقراطية وحقوق الانسان، وأصبح الشعب ينتخب أعضاء البرلمان الذي يمارس السلطة التشريعية وتنبثق عنه الحكومة التي تزاول السلطة التنفيذية.

وليس حال الشعوب العربية في بلدانها بأفضل مما كانت عليه فرنسا قبل الثورة، ولذلك قلما نجد مثقفا عربيا يتألم لآلام هذه الأمة إلا دعي وحرض ونادى من فوق المنابر وفي بطون الجرائد والصحف شباب الأمة، أن ثوروا على حكامكم المستبدين، فالأمة الإسلامية لم تفارق فراش مرض الموت منذ أن تولى أمورها ثلة من عبدة البطون والكراسي.

وبعد أن انتشر الوعي في الشارع العربي جاءت الثورات العربية، أو ما يعرف إعلاميا بالربيع العربي أواخر 2010 ومطلع 2011، كردة فعل من الشعوب على الركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية وانتشار البطالة، إضافة إلى التضييق السياسي والأمني وعقود من تكميم الأفواه وانتهاك الحقوق الحريات.

رأى الشاب العربي -آنذاك- أن تلك الاحتجاجات التي أطاحت بأنظمة شابت في الحكم، ستكون بداية نهضة واستبشر بها وأمل فيها خيرا، خصوصا بعد أن أوصلت إلى سدة الحكم تيارات سياسية أقل ما توصف به شرف التاريخ السياسي والبعد عن الاستبداد ومواطن الشبهات، وآخر ماتتهم به هو اختلاس المال العام واللهاث خلف الكراسي.

لكن سرعان ما تلاشت تلك الأحلام، وتبدلت بواقع مر يعيشه الشباب العربي، مع تفاوت في ذلك. فمنهم من هُجر عن وطنه الذي تحول إلى ساحة للصراع بين القوى العظمى، ورأى نفسه فجأة في الشارع متسولا إلى جانب أمه الثكلى وأخته الأرملة وحبيبته التي ضاع شرفها يوم اقتحمت مجموعة من أراذل أشباه الرجال منزل والدها، والأخبار الوافدة لا تبشر بخير، فحلب تباد والشهداء بالآلاف والجرحى بالملايين.

لكن سرعان ما تلاشت تلك الأحلام، وتبدلت بواقع مر يعيشه الشباب العربي، مع تفاوت في ذلك. فمنهم من هُجر عن وطنه الذي تحول إلى ساحة للصراع بين القوى العظمى.

ومنهم من رأى بالعين المجردة -بعد أن فقد زميله في الاحتجاجات-أن الأمور مازالت على ما كانت عليه من فقر وبطالة، ولم يتغير سوى أن رحل القائد – في أفضل الأحوال-وبقي الجلادون ورجال الدولة العميقة يتحكمون في كل شيء، وأن من انتخبتهم الشعوب لم يكونوا على قدر التحدي، ولا يهمه هنا إخفاقات تيار معين ولا نجاحاته، ولا الثورة المضادة التي واجهت من جاءت بهم تلك الاحتجاجات إلى سدة الحكم، ما يهمه فقط -وله الحق في ذلك-أن تلك البلدان التي ثار شبابها، مازالت تحافظ على مقعدها الدائم بين الدول الأكثر فقرا في العالم، وإن كان في ذلك ظلما لتلك التيارات ولو نسبيا.

هنا بدأ الشاب العربي يحاسب نفسه ولسان حاله: أن تقرأ في المقاهي عن الثورات وتتعلق بنتائجها، ويصلك شعاعها المعرفي عبر الكتب والجرائد، خير لك ألف مرة من أن تراها وتعيشها واقعا. لكن وبرجوعنا قليلا لما قبل 2010 وإعادة شريط ذكريات تلك الحقب وما تنطوي عليه من ظلم واستبداد وفقر وتجهيل وفساد وانتهاك للحقوق والحريات، ندرك أن الثورة – رغم نحافة ما تمخضت عنه- أتت أكلها، فقد كنا نعيش في بلدان يحبس فيها المحامي عندما يرافع بصدق عن موكله، ويغتال المفكر عندما تقرأ له الناس وتصغي لفكره الإصلاحي. وينفى السياسي حين تميل كفة الانتخاب لصالحه وتهتف له الجماهير بأصواتها المتعطشة للحرية والدولة المدنية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

أيها الشاب العربي المصدوم بالواقع وحجم التحديات، تفائل خيرا فالبلدان العربية اليوم تعيش نشازا في مجال الحريات، ومعركة الحق والباطل محسومة سلفا- وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- طال الوقت أم قصر، ودم جراحك المهراق في الميادين نلت به ما ناله عثمان رضي الله عنه بعطيته لجيش العسرة في غزوة تبوك.

والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله، وعزة المؤمن تفرض عليه أن يعيش كريما مرفوع الرأس، وإلا ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى. فلله در الشعوب العربية ما أقدرها على مقارعة المستبدين، وما أشجعها يوم تتكالب الأمور، وما أجمل الحياة بالبلدان العربية والإسلامية حين يحكم الشعب نفسه بنفسه، ويحتكم على صناديق الاقتراع في شؤونه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.