شعار قسم مدونات

هذا فراق بيني وبينك

blogs - friends
قضيت سنوات من عمري أرتل سورة الكهف في ليلة كل يوم جمعة، وكثيراً ما وجدتني أتوقف بشكل عفوي عند قصة النبي موسى عليه السلام مع خضر العبد الصالح الذي أوتي علماً. وأنا أتابع بشغف قصة لقائهما وأحداث رحلتهما كنت أستغرب عندما يخاطب خضر النبي موسى قائلاً: "هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ". كيف لأعلم أهل الأرض أن يفارق نبياً مرسلاً وهو الذي يحبه ويعلم بطهره وفضيلته؟ وماذا يطلب الانسان في حياته أفضل من صحبة نبي وهل هناك رفقة أحسن من رفقته ؟

 

كثيرة هي التساؤلات التي راودت عقلي الفتي في كل مرة لأني كنت مقتنعاً أن صلاح الإنسان وفضيلته أمر كافي لنقبل صحبته وليعتلي أهم المراتب بقلوبنا. لكني يوماً بعد يوم بدأت أدرك أن صلاح الإنسان أو روعته لم تكن يوماً شرطاً كافياً لملائمتنا ونيل صحبتنا، صرت أفهم أكثر سبب إنهاء الخضر لرفقته مع النبي موسى، فهو لم يفهم مغزى تصرفاته لدرجة بدت له أكثر أفعال الخضر نبلاً وخيراً، أفعالاً شيطانية وجب معارضتها، لأنه قد جهل نظرته للحياة وعلمه بخلفياتها وسياقها وعجز عن استيعاب ما ارتكبه، أفعال رآها جرائماً في نظره.
 

لم توجد القصص للتسلية أو التلاوة فقط بقدر ما وُجدت للعبرة واستخلاص الحكم. ستصادفك الحياة أحياناً بشخص غاية في النبل وسلامة النوايا وستلمس به الكثير من روعة الصفات وسترى به من جميل المعاني الكثير، إلا أنك ستجده عاجزاً عن فهم الكثير من تفاصيلك وعاجزاً عن تلمس نواياك الحسنة في حركاتك اتجاهه. كأن به قطعة ذهبية نفيسة إلا أنها على روعتها وندرتها لا تلائم الجزء الناقص من أحجية الداخلية.
 

كيف لأعلم أهل الأرض أن يفارق نبياً مرسلاً وهو الذي يحبه ويعلم بطهره وفضيلته؟ وماذا يطلب الانسان في حياته أفضل من صحبة نبي وهل هناك رفقة أحسن من رفقته؟

فهو لا يرى الحياة من نفس نظارتك ولا يشاطرك أولوياتها ولا هواجسها. فتبدو أجمل تصرفاتك قبيحة في نظره، وسيرى أكثر الأمور أهمية لديك مجرد اهتمامات تافهة وصبيانية لديه..

لن يستطيع قراءة تغيراتك المزاجية ولا التقاط اشاراتك ولن يحادثك على نفس طول الموجة، كأنكما تائهان في جزيرة ضائعة تتحدثان لغتين مختلفتين تماماً دون أن تجدان سبيلاً للتواصل ولا طريقاً للانسجام والتفاهم.
 

فتراه يجد غضبك غير مبرر وسعادتك مبالغاً فيها، سيرى اهتمامك كأنه ضعف وكلامك الصريح كأنه سذاجة، وقد تبدو له الكثير من أفكارك مجرد فلسفات هائمة في التجرد والخيال، والكثير من حركاتك غارقة في العبث والضياع. ستجده بارداً أمام أشد الأمور حماساً لديك دون أن يشاطرك حماس اللحظة ولا حتى أن يكون قادراً على تفهم شعورك في ذلك المشهد.
 

فإن حدث وصادفتك الحياة بشخص كهذا، فتعلَّم من حكمة خضر لتنهي رحلتك معه رغم كل الروعة التي تسكنه، ذلك لأن ألم الفقدان العابر أهون بكثير من ملازمة مشاعر الخيبة الدائمة. تعلم من حكمة خضر، وقف أمامه بكل الهدوء الذي يستوطنك لتقول له: "هذا فراق بيني وبينك"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.