شعار قسم مدونات

لاجئون تعلموا التنظير قبل اللغة

blogs - لجوء
أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي عدة مرات في اليوم، يكاد لا يخلو يوم من ملاحظة تنظيرات وتحليلات مصورة أو مكتوبة يقوم بها بعض اللاجئين الذي نجوا بأنفسهم من سعير النار التي لم تبقِ ولم تذر تخص المقارنة بين واقعهم الحالي والسابق ونقد العادات والمواريث.. خطوة اللجوء خطوة لا بد منها في حالات السعير هذا، فلولاها لتحول اللاجئون في بلدانهم لصناديق موت وأشلاء بلا شك، وفي أفضل الحالات سيواجهون كل مرارات العيش من العوز والبرد القارس والحر الشديد تلك التي لا يرضاها أي منا.

الناقدون لهذا اللجوء لا يتمتعون بأدنى حس بشري أو إنساني وكلهم ممن لم يعاني مطلقاً ولم يشعر شعور الهارب من الموت نحو إما الموت ثانية أو النجاة بأقل المقدرات المعيشية لما يواجه من صعوبات في بداية الحياة الجديدة، نعم هي حياة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

شعور مفعم بالتفاؤل اللاإرادي نابع عن اليقين بقدرة شعب جبار على الإبداع والتأقلم تحت أي ظروف جديدة، وقد حدث هذا فعلاً، فسمعنا بعشرات الحالات من الإبداع الفريد في زمن قياسي من تعلم لغة وتفوق بها إلى إنجاز مشاريع في الهندسة، إلى براءات اختراع أو تأسيس مشاريع متوسطة وصغيرة تغنيهم عن المساعدات، كل ذلك النجاح في زمن قياسي في دول اللجوء، هي ترجمة لنبوءة قالها أحد مخرجي الأفلام العالميين في أواسط عام 2011، ولم يكن أحد يعرف قصده إلا الدارسون لتاريخ الشعوب، قالها "سيدخل هذا الشعب التاريخ من واسع أبوابه".

الفارق بين مجتمعنا وتلك الدول كبير جداً في الكثير من الجوانب، يشكل هذا الفارق كما الجنة والنار في نظر الطامحين للنجاح والتميز، وهذا واقع لا يتجرأ أحد على نكرانه.

وهو مؤشر على مدى إبداع لم يخلُ منه زمان في هذا البلد المعطاء، سوريا، مهما قست بها وبشعبها الظروف، وهل ينتج المعدن الصلب والفخار المتين إلا من الصهر بأعلى درجات الحرارة؟

هذه الشريحة متفرغة للعمل وبعيدة نوعاً مع عن الظهور، فلها غاية أسمى من أي شيء آخر وهو النجاح وقطف ثمرة المصاعب كلها، ولا يوجد ثمرة أنضج وألذ من ثمرة ما بعد المصاعب.

الموضوع هنا عن شريحة مواظبة على التنظير والمقارنة بين ما كانت عليه وما أصبحت فيه، لكنها ليست مقارنة ذاتية بهدف رتق العيوب بعد تهيئة البيئة المناسبة لرتقها (كون كل دول اللجوء تفتح المجال للإبداع، هي بالواقع لا تقيده أساساً ولا تغلق بابه على أحد) وفي أحسن الحالات واقع اللجوء من ناحية الأمن لا يقارن بالحالة ما قبل اللجوء نفسه، الوعاء الفارغ وبعبارة أدق للإنصاف "غير الممتلئ" حتماً يملؤه أي شيء، ولو كان بالضد.

تتمتع دول اللجوء بأغلب المزايا التي يطمح لها أي إنسان يتمنى أن يشعر لمرة أنه في الموقع الصحيح، ولو لم تكن ذات مزايا ومغريات ولو على المدى البعيد لما لجأ إليها الهاربون من الموت، فاللاجئ لم يهرب من الموت ليلاقيه في مكان آخر، هو قرر حياة أخرى ولديه بعض القرار لاختيار إحدى تلك الدول.

الفارق بين مجتمعنا وتلك الدول كبير جداً في الكثير من الجوانب، يشكل هذا الفارق كما الجنة والنار في نظر الطامحين للنجاح والتميز، وهذا واقع لا يتجرأ أحد على نكرانه. ما يجهله المنظرون في إبراز الفوارق بين ما كانوا عليه وما حلّوا به هو حقيقة مختبئة خلف ستار ليس بشفيف، نحن لم نصنع مجتمعاتنا كما نظن يا صديقي المنظّر، المجتمعات الغربية صنعتها حكومات متوازنة داخلياً غايتها أن تصنع إنسانا، هذه الكلمة البسيطة (إنسان) جعلت عشرات الآلاف تترك كل ما تملك ولو حتى أفلاذ الأكباد لتهرب إلى مجهول يرى فيها الفرد نفسه إنسانا يستطيع تحقيق أحلامه.. أما مجتمعاتنا فمختلفة تماماً بعيوبها وصوابها وطبيعتها، لكن لا يوجد مجتمع يحرمك من أن تقرأ وتتثقف وتبحث عن الحقيقة، قد أرحتك من الاتهام بتبعيتي العمياء لمجتمعي كما تظن، فأرحني بفهم ما أريد إيصاله لك.

هل كنت تتبضع في أسواق أوروبا فهمس لك البائع أن عقيدتك وعاداتك مغلوطة؟ هل وجدت نسخة من القرآن لم تكن متاحة لك في بلادك واكتشفت الفارق؟

لم تتوقف الأمور عند البعض في إجراء المقارنات (الصحية أحياناً)، وإنما تعدتها لمرحلة النقد القاسي لما تمتلكه مجتمعاتنا من عادات وتقاليد وحقائق يراها المنظّر ناراً كانت تكوي ملكاته الدفينة فأطفأها بما رأى في بلدان اللجوء، علماً أنه كان يعرف الفارق سابقاً ومعايشته ليست برهان.

في قصة حقيقية، أثناء شرح المدرس لأحد معادلات حساب العزم، قاطعه أحد الطلبة بسؤال "أستاذنا هل نستطيع أن نعتبر العزم في طرف الذراع يعادل القوة في الطرف الآخر؟"، أجابه المدرس مباشرة "هل خمسة ثواني تساوي أربع كيلو غرامات؟ يا بني تعلم قاعدة علمية واحفظها جيداً حينما تقارن شيئين، افهم أولاً هل هما من نفس الطبيعة والبيئة حتى تقارن، لو تعلمتها جيداً فلن تجري مقارنة خاطئة في حياتك، ادرس المحددات والعوامل ومجال المقارنة أساساً، قد يوهمك العقل بمجال ما للمقارنة كما حدث معك بين القوة والعزم فلا تتبعه قبل أن توقن بإمكانية المقارنة بالأساس".

في مراحل متقدمة يقدم لنا المنظّر نظرته الفلسفية حول العادات المغلوطة اجتماعياً، والأسوأ من ذلك دينياً، في بلاد لا تعرف من هو الإمام مسلم؛ أيقن المنظرون هناك أن أحاديث الرسول الكريم الواردة في صحيحه لم تكن صحيحة بتواترها، في بلدان لا تفرض الحجاب بل وتعاديه اكتشفت المنظرات أن الحجاب مغلوط ديني متوارث فخلعته، في بلدان تنظمها ضوابط طلاق وانفصال مختلفة تماماً عن مجتمعاتنا أبهرنا المنظرون أن الطلاق في مجتمعاتنا والتعددية الزوجية هو موروث خاطئ.

هل كنت تتبضع في أسواق أوروبا فهمس لك البائع أن عقيدتك وعاداتك مغلوطة؟ هل وجدت نسخة من القرآن لم تكن متاحة لك في بلادك واكتشفت الفارق؟ هل هناك كتاب غير متاح في بلدك متاح خارجاً؟
فعلاً الوعاء الفارغ يملؤه أي شيء ولو كان بالضد. هنا لا أتحدث مطلقاً عن صحة أو خطأ المعتقدات أو الحقائق الدينية بتاتاً، فليست من تخصصي ولا أعلم بها فلها روداها، هنا الحديث علمي بحت، كيف لشخص أن يقارن بين حالتين لا تربطهما أوجه مقارنة إلا بالاسم وبعض الشكل، وكيف له أن يصل إلى صحة حقيقة من بيئة شحيحة أو معدومة المعلومات عنها؟

صديقي المنظّر أدرك موقعك ودعك من التنظير والهرطقة، فغيرك متفرغ ليثبت نجاحه ويبرهن معجزته وأنت متفرغ للتنظير والصراخ في وعاء فخاري فارغ.

وكيف له أن يعيد تفسير الآيات الكريمة من بلده الجديد ضارباً بعرض الحائط آلاف الأبحاث والاجتهادات والحقائق العلمية والإثباتات والأحاديث التي أقسم أنه لم يقرأها ولم يدرِ عنها البتّة كمن يبحث عن بذرة حقيقة في حقل حرثه الباحثون آلاف المرات سابقاً، ما هو القادح للتثقف الذي كان متسنى لدى الجميع سابقاً لكن المنظر لم يجده هنا ووجده فجأة خارج مجتمعه.

اللاجئ الذي يريد التميز والحقيقة ليس لديه وقت لهذه الترهات بتاتاً، ولو كان في نظر نفسه لاجئا مناضلا لقضية ما.. 

ما يحدث هو ببساطة انسلاخ من مجتمع نحو آخر، انسلاخ منقوص، لأنه لا الآن ولا بعد حين سيحدث الالتصاق بالمجتمع الآخر بشكله الكامل، رأينا كيف وجه البعض تهمه لترمب أنه من أصل لاجئ، دول اللجوء تدرك ما تفعل، استقطبت طاقات هائلة وتشكر حتماً على ذلك لأنها أفادت واستفادت، ندرك حتماً هناك جانب إنساني.

صديقي المنظّر أدرك موقعك ودعك من التنظير والهرطقة، فغيرك متفرغ ليثبت نجاحه ويبرهن معجزته وأنت متفرغ للتنظير والصراخ في وعاء فخاري فارغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.