شعار قسم مدونات

عن الوطن

blogs- الوطن
قالت لي ذات مرة "أنت الوحيدة بين صديقاتي ما زالت تؤمنين بالوطن" أنهيت حديثي معها وتساءلت بيني وبين نفسي "هل حقا أومن بالوطن؟ هل أعرف قبلا ما يعني الوطن كي أتمسك به؟ هل تشبثي به إلى هذا الحد هو حقا حب للوطن، أم هو تمسك بشيء أعرفه خوفا من شيء أجهله؟".

لا شك أن الجواب يبدو صعبا مستعصيا-على الأقل في الوقت الراهن-لأني لم أغادر أبدا هذا الوطن، أحيانا كان الأمر اختيارا وأحيانا أخرى اضطرارا، و مع مرور الوقت صرت أتشبث بهذا الذي يسمى وطنا كأني لم أفطم منه وكأن الوقت الذي سأفعل لم يأت بعد ولن يأتي على الأرجح.

كثيرا ما كان الحديث عن الوطن محل سجال بيني وبين نفسي، ليتحول فيما بعد موضع سجال بيني وبين الآخرين، أجدني أتعب بشدة وأنا أتابع التعليقات على منشور يتحدث عن البلد وعن أوضاع البلد، أجدني أتعب بصدق وأنا أطالع الآراء المكتوبة هنا والمكتوبة هناك، المعبر عنها صراحة وتلميحا.

"الوطن حيث أجد كرامتي، الوطن حيثما أكسب قوت يومي، الوطن حيث العدلل، الوطن حيث الصدق، أرض الله واسعة كلها وطني، وطني الذي أختاره لا الذي اختير لي، الهروب لمن استطاع، هذا ليس وطنا إنها أرض للبيع و الريع".


تحفر هذه الكلمات ومثيلاتها في نفسي عميقا لأني أصدح كل مرة، من لهذا الوطن إذا كفرنا جميعا به؟ من لأولئك الذين لا يمتلكون صوتا وينتظرون أن نكون صوتهم، من للمنسيين وللمتعبين من المسير؟ من للمسافرين والتائهين عن الطريق؟.

يا الله لا أدري أ أنا الوحيدة التي توجعني هذه الكلمات وتترك في نفسي غصة عميقة، خاصة إذا ما صدرت عن الأخيار ، عن أولئك الذين يزرعون ما استطاعوا لكنهم يتعبون جازمين أن الأرض أرض بور، عن أولئك الذين ولدوا من هذا التراب ومن قلبه انعتقوا لكنهم سرعان ما أداروا ظهرهم له.

تحفر هذه الكلمات ومثيلاتها في نفسي عميقا لأني أصدح كل مرة، من لهذا الوطن إذا كفرنا جميعا به؟ من لأولئك الذين لا يمتلكون صوتا وينتظرون أن نكون صوتهم، من للمنسيين وللمتعبين من المسير؟ من للمسافرين والتائهين عن الطريق؟ من للمستضعفين والغارقين في دركات الجهل والتعتيم؟ من لليائسين والمظلومين والراكضين نحو أحضاننا متوهمين أننا لسنا سرابا.. أ نكذبهم ونكون سرابا؟!. 

من لأولئك الذين آمنوا بالوطن ساعة قدمنا لهذه الدنيا لأنهم رأوا فينا الأمل واعتقدوا أن تضحياتهم لن تذهب سدا ولن تكون نسيا لأننا تلقفناها ساعة أوشكوا على الاستسلام.

يوجعني الأمر أكثر وأنا أنظر لأبناء هذا الوطن، لا ليس أولئك الذين تعلموا و لا أصحاب الشهادات الذين يفترشون الطرقات ولا الضاربين في الأرض سعيا لرزق يكفيهم شر الحاجة ولا المستعففين عن السؤال المستكفين بما جاد به الاله كرما وعطاء، بل أولئك المستوطنين بالزوايا المعتمة والآخرين الساقطين عمدا من الذاكرة والكثيرين المتاجرين بأجسادهم لأنهم يحملون هم الرزق لا هم السعي له، والآلاف الذين لم يتعرفوا على الله و لم يخبرهم أحد عنه.

ما زلت أومن بهذا الوطن حقا، لأني موقنة قبل كل شيء أن الانسان هو الوطن، أنه من يصنع المكان ويكسبه بهجته، أنه من يحيل الأرض العاقر إلى أرض معطاء، أنه من يجعل الفكرة البسيطة تضرب بجذورها في الأرض وتنبت الأمل وتثمر زهرا من عمل، سأضل أومن أن اختيار الله لنا لنولد في مكان ما دون الآخر والنطق بلسان عربي أو أمازيغي أو حمل دماء صحراوية أو أندلسية أو التواجد في بقعة جغرافية صغيرة من بقع هذا العالم لأننا نملك دورا في ذلك المكان لن يقوم به أحد بدلا عنا ولأننا عندما نترك مكاننا فارغا فلن يملأه أحد لأنه يملك مكانا يحتاجه أكثر، ولأن الجذور التي تربطنا به أكبر من الانتماء الجغرافي بل هي شيء أقرب للارتباط الروحي، كأنك انبثقت منه وانبثق منك.

قد لا يشعر بهذا بعضنا أو أغلبنا كوننا لم نجرب يوما أن نفقد الوطن، لم نجرب يوما أن نشعر أننا على وشك أن نخسره، أن نصبح بلا انتماء، بلا اسم ننسب إليه، بلا أرض نعود إليها، بلا وجوه ننظر إليها فندرك كم تشبهنا، كم نفهم بعضنا دون الحاجة لتعلم اللغات أو استخدام الاشارات.

قد نضطر أحيانا لترك هذا الوطن لأن مشروعنا يمر عبر بوابة الهجرة ولأن أحلامنا إذا بقيت هنا ستختنق وتموت لأن علة وجودها غير قائمة، لكن إن كنا سنغادر لأننا نفكر في الخلاص لأنفسنا قائلين أن نحن وبعدنا الطوفان، أن الأمل في هذا الوطن موؤود وأن القاطن فيه مفقود

لم نجرب أن نعود للمكان فلا نجده، أن نفتقد فيه ذكريات الطفولة المنقوشة بين جدرانيه، أن تختفي ملامحه، أن يهجر البحر مسكنه، أن تحمل الجبال أوتادها بعيدا، أن تُطمس الزوايا التي فيها تشكل إدراكنا ووعينا، حيث عرف بعضنا الحب الأول والبعض الآخر الغدر الأول والنجاح والفشل، حيث ذرفت الدموع ورُسمت البسمات ونُقشت البصمات.

سنشعر بغصة ونحن نبحث عن المكان الذي ارتكبنا فيه حماقاتنا الأولى وهروبنا الأول من المدرسة، حيث نقشنا على الحيطان أول كلمة ورسمنا على الجدار أول رسمة ونحتنا على الشجرة أول قلب منكسر، حيث بحنا بأسرارنا وتعاهدنا ذات يوم أن لا نخسر صداقاتنا، حيث قطعنا وعودنا الساذجة منها

والمغرقة في المثالية، ستحتاج لا شك أن تقول ساعتها أن من هنا مررت وهنا تركت بصمتي، أرى الوطن في ضحكات الصغار وفي ابتسامات الكبار وقهقهات العجائز المفترشين للطرقات، المتأبطين أيدي بعض بحب وثقة، في عطر الأرض الذي يجعلني أبتسم، في عبق الزيتون المعصور توا، في عدو الصبيان بين الأزقة، أسمعه موسيقى عذبة ساعة يولد الجدد.. في نعومة ملمسهم، أراه في تلك النظرة الباحثة عن الأمان فينا، في تلك التفاصيل الصغيرة التي تكاد لا ترى.

أراه في حنين المغتربين، ولوعة المفترقين، وذلك المزيج المختلط من كل شيء وأنت تغادره، أراه في إعجاز ذلك الشعور المرتبك وأنت تخطو عائدا إليه، فرحا وحزنا وغضبا لأنه ليس الوطن الذي تحلم به لكنه المكان الذي تنتمي إليها اسما وعرقا وفكرا وجسدا. إنه تماما كأب أنجبك ولم يعرف كيف يحبك ولا كيف يحنو عليك ولا كيف يعطيك مما يملك، كأنه اختار أن يدلل بعض أبنائه مقابل قسوته عليك، ستفكر في هجره وستهجره وستبني لك حياة جديدة لكن ارتباطك به لن ينقطع لأنك تحمل اسمه ويجري دمه بين أضلعيك.

أنا هنا لا أدعو للالتصاق بالوطن ولا لتقديسه ولا لتمجيده، فالإنسان كالفراشة حيثما ثمة زهر فهو له، لكني أتمنى لو أننا لا نقسو عليه كما يفعل هو، لو أننا نحاول أن نجعله مكانا أفضل للعيش ليس لأنفسنا فقط بل لأولئك القادمين من أجيال جديدة لأنهم يستحقون أن يجدوا مكانا خليقا بأن يعيشوا فيه، لأننا نستحق أن نحارب من أجل أحلامنا كي ترى النور حيثما ولدت أول مرة، لأننا لن نختلف عنه كثيرا إذا ما أدرنا ظهرنا له كما يفعل هو كل مرة.

قد نضطر أحيانا لترك هذا الوطن لأن مشروعنا يمر عبر بوابة الهجرة ولأن أحلامنا إذا بقيت هنا ستختنق وتموت لأن علة وجودها غير قائمة، لكن إن كنا سنغادر لأننا نفكر في الخلاص لأنفسنا قائلين أن نحن وبعدنا الطوفان، أن الأمل في هذا الوطن موؤود وأن القاطن فيه مفقود، أنهم خربوا الوطن وعبثوا بالوطن فساعتها فقط تذكر أن الانسان هو الوطن، أنا وأنت وهي وهو نحن الوطن، بصمتنا التي نتركها، التغيير الذي نساهم فيه، الأحلام التي نحارب كي تخرج للوجود هي ما يحتاج الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.