شعار قسم مدونات

عرفت أبي في المعتقل

سجن2
قلتُ لأبي في جلسة الفطور الأخيرة، صباح 1/7/2011، أريد ثلاثة آلاف وخمسمائة ليرة لألتحق بمعهد اللغة الإنكليزية، بعد أن أنهيت امتحانات الإعدادية وبدأ الصيف. سمعني حتى النهاية بهدوءٍ، ثم قال "طول بالك يا بابا هالكم يوم، ما منعرف شو بيصير معنا بكرى". في صباح اليوم التالي اعتقلت دورية تابعة للمخابرات الجوية أبي، وبعد عشرين يوم اعتقلت أخي وما زالا معتقلين حتى اليوم! كنت قد أتممت وقتها خمسة عشر عاماً، وحيدا بلا أبي وأخي، وأعيشُ في بلدةٍ كانت سبّاقةً في الانتفاض ضد نظام الأسد، وصارت فيما بعد من أشهر مُدن الثورة تُسمى "داريا". اختلفت حياتي بعد ذلك، أذكر أني بقيت ثلاثة أشهر أتردد يومياً إلى بناء المحكمة، لأنتظر باص المعتقلين الذي سيحمل أبي وأخي ذات يوم.
 
تغير أبي كثيراً، كان يبدو شبحاً لمن كان أبي! بدت عليه آثار السجن والتعذيب وبداية الشيخوخة، ولكن هذا لم يمنع العسكري الُمرافق من التعامل السيء وتوجيه الشتائم له.

قابلتُ معتقلين كُثر، أُفرج عنهم في تلك الفترة أغلبهم يعرف أبي، إما قابلوه في زنازين مطار المزة العسكري أو سمعوا عنه. أسألهم عنه لأعرفَ أخباره ولسببٍ أخر أخفيته طويلاً؛ كي أعرفَ أبي! أبي الذي أتذكره في طفولتي يحثنا على الصلاة، والذي يُلاعبنا في النزهات، والذي بالطبع يُعاقبنا وقت الخطأ ويُكرمنا وقت النجاح. بعد أن مضى على الثورة شهورٌا وصرتُ أعرف أغلب الشباب وأغلبهم يعرفني على أني "ابن أبو الخير الدباس" صارت تصلُ أخباري لأبي في المعتقل، يُعتقل أناسٌ ويقابلونه  ويخبروه عني، ويسألهم للاطمئنان وليعرفني!

أبي لم يعرفني إلا طفلاً صغيراً، ثم طالباً في المدرسة والمسجد، ومتطفلاً دائماً على هاتفه، ومهووساً بسرقة مفاتيح سيارته والجلوس بداخلها. استمرت الأيام هكذا، كُلٌ منّا ينتظر أخبار الآخر، وينتظر من يحمل الجديد دائماً، وبالطبع ينتظر اللقاء المُنتظر حتى الآن. ثم تثنى لنا بعد عام ونصف تقريباً من اعتقاله زيارةً له في سجن صيدنايا العسكري مدتها ثلاث دقائق.

تغير أبي كثيراً، كان يبدو شبحاً لمن كان أبي! بدت عليه آثار السجن والتعذيب وبداية الشيخوخة، ولكن هذا لم يمنع العسكري الُمرافق من التعامل السيء وتوجيه الشتائم له، عدا عن حفلة التعذيب قبل وبعد الزيارة. صدمني سؤاله لوالدتي يومها "مين هالشب اللي جاية معكم" مُشيراً إليّ، كصدمتي تماماً بالسؤال صُدم بالإجابة، قالت أمي هذا عبد الرحمن! أكّد عليها مُجدداً وقال "عبد الرحمن ابنا!" وانتهت الزيارة.

بعدها بأيامٍ نُقل أبي من جحيم وصقيع سجن صيدنايا إلى سجن عدرا المركزي، زرته مباشرةً، في بداية الزيارة كان صوته خافتاً، عاش أشهراً طويلةً في السجون بنبرة الصوت هذه، بعد أيام بدأ يسترد عافيته وصارت زياراتنا مُتكررة له وصارت اتصالاته غذاء روحي. من زار سجن عدرا يعرف كيفية الزيارات، في زياراتٍ عديدةٍ عرّفني على أصدقائه في السجن وعرّفتهُ كذلك على أصدقائي الموجودين في السجن ذاته، وصار الكثير من الشباب يعرفُ أبي إما على أنه أبي أو أنه أبو إسلام الدباس، زادت علاقتنا رغم الشبكين الفاصلين، وصار يكتب الرسائل تعويضاً عن غيابه.

مضت الأيام، وبقيت وحدي مع جدي وجدتي في دمشق لدراسة البكالوريا، وصارت اتصالاته ورسائله المهرب الوحيد من الكتب وازدحامها. في تلك الفترة زادت اعتقالات الشباب في دمشق، فطالتني أيدي عناصر فرع الأمن العسكري- سرية المداهمة 215 المعروف "فرع الموت"، يومان فصلا أبي عن معرفته باعتقالي، كان صابراً مُحتسباً مُصبّراً لبقية العائلة ومواسياً لوالدتي. في فرع الموت صرت أُخبر أصدقاء الزنزانة أن والدي موجودٌ في سجن عدرا، وأطلب ممن سيتحول إلى هناك الذهاب إلى الغرفة رقم 501 ومقابلة أبي و طمأنته عني.

على مدار شهر تحول العديد من أصدقاء المعتقل إلى سجن عدرا وأدّوا الأمانة. كان مما فاجأني لاحقاً طبيعة أسئلة أبي عني في المعتقل، إذ كان يسأل عن صلاتي، وعن صبري، وعن إيماني بما قمت بفعله، وعن ثباتي، وعن طبيعة تعاملي مع باقي المعتقلين، شعر أبي – بشهادة من حوله – بالفخر باعتقالي لا بالانكسار، تماماً كما أشعر دائماً بفخره بأخي إسلام لا بانكساره. بعد حوالي شهر من اعتقالي، قرر المحقق تحويلي إلى المحكمة حيث جرت العادة، ومن ثم يُترك في سجن عدرا فترة قبل الإفراج عنه، ولكن أُفرج عني من المحكمة مباشرةً، كانت الأخبار قد وصلت إلى أبي أني وصلتُ المحكمة وأني خرجت من المعتقل.

اتصل أبي مساء اليوم الذي أُطلق فيه سراحي، هنأني بخروجي وقال لي أنه حجزَ لي دوراً عند الحلاق وحضّر لي فرشة بجوار سريره، وأنه سعى في أن يحصل لي على سريرٍ أيضاً لكنه لم يستطع بعد، وأنه قد جهز عشاءً مكوناً من البيض والتونة والسردين ونوع من أنواع الجبنة، عدا عن الفواكه والكوكتيل، وأنه أخبر الدكتور جلال وبعض الأصدقاء ممن التقيت بهم بالفرع بأني سأُحول اليوم وكلهم كانوا بانتظاري، وأخيراً أخبرني أنه اشترى لي شامبو "سنان" وصابونة، ولكن أنا من أخلفت وخرجت إلى المنزل مُباشرةً. وقتها فقط تمنيت لو أن القاضي قد أمر بتحويلي إلى سجن عدرا والعيش بذلك النعيم، أو عيش تلك اللحظة المُنتظرة حتى اليوم، جلسة طويلة مع أبي!

قال "قبل سنتين يا أبي قرأت 26 مجلد كتبهم العقاد، وقرأت في الفقه والتفسير والفلسفة، وأنهيت مؤخراً كتاب الحيوان للجاحظ، وأقرأ الآن بكتاب الحضارة، وسأبدأ قريباً بكتب التاريخ"!

بعد أيام زرتُ أبي في سجن عدرا، وكان التعب والإرهاق والمرض ملحوظٌ جداً على جسدي إثر الاعتقال، بعد فترة من الوقوف على الشبك استأذنته بالجلوس عشر دقائق لأستريح، ثم نهضت مُجدداً. فاجأني بكلامٍ لا زلت أذكره حرفياً إلى الآن قال: "لا تفكر انو انا وياك وإسلام قدمنا اللي علينا لهالبلد ولهالدين، لسا علينا كتير لقدام ونحن قدمنا جزء بسيط جداً من اللي لازم نقدمه". لم أُعلقْ إلا بإخباره بقرار السفر، كان الوحيد الذي أحزنته فكرة السفر أكثر مني ورفضها لولا خطر البقاء.
 

بعد أن سافرت ظلّ أبي يرسل لي رسائل تحوي النصائح وخلاصة أفكاره وآخر تأملاته، حتى أنها تتضمن أسماء كُتبٍ عليَّ أن أقرأها، أبقى أبي بيني وبينه حبلاً لا ينقطع من التواصل، عدا عن المكالمات. مرت سنين طويلة وأنا أعيش على رسائل أبي وكتاباته ومكالماته، قبل أيام كنت أُفاخر بنفسي في إحدى المكالمات، فقلت له أني أقرأ كتاباً كبيراً فسألني كم مجلدا؟ فضحكت، وقلت ثمانمئة صفحة، فقال "قبل سنتين يا أبي قرأت 26 مجلد كتبهم العقاد، وقرأت في الفقه والتفسير والفلسفة، وأنهيت مؤخراً كتاب الحيوان للجاحظ، وأقرأ الآن بكتاب الحضارة، وسأبدأ قريباً بكتب التاريخ"، سكتُّ طويلاً، ومازحته قائلاً "أي شو بتقضي السجن بالمكتبة؟" صدمني مجدداً، يزور المكتبة اثنا عشر ساعة فقط في الأسبوع!
 

بكل ما سبق، وبكل المشاعر الباطنية التي حملها النص، وبكل المشاعر التي انتابتكم وأنتم تقرؤون، فإني أحمد الله أني تعرفت على والدي، فغيري كثيرون لم يحصلوا على هذا الحق في الحياة! كل ما سبق ذكره مقتطفات ولحظات قصيرة وسريعة من قصة طويلة.

والدي "خيرو الدباس" اعتقل ب2/7/2011 محكوم لصالح المحكمة الميدانية لمدة 15 سنة، صدر عفو مؤخراً عن ثلث المدة وتُحتسب السنة القضائية تسعة أشهر، أي أنه سيفرج عنه في بداية عام 2019.
أخي إسلام الدباس اعتقل ب22/7/2011 يُحكى أنه موجود في سجن صيدنايا العسكري حتى الآن، زرته مرتين عام 2012 ثم انقطعت أخباره!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.