شعار قسم مدونات

انتهاك التوحيد

blogs - قرآن
يحتاج أساتذة التوحيد اليوم ومعلمو العقيدة إلى إعداد آلية جديدة لتقديم العقيدة ومفرداتها للشعوب التي عاشت فقرات الزمن تتعاطاها بتلك الآلية المنفعلة التي جردتها عن صفائها الروحي وأثرها السلوكي المعبر، فبقيت ردود أفعال عنيفة، ومناطق نزاعات مفخخة، وجدلا فلسفيا أليما، فقد قضى كثير ممن دونوا في العقيدة ومعرفة الله تعالى جزءا كبيرا من أوقاتهم في الاشتباك مع تلك الفرق وإحراق أوراقها، حتى خُيل إلينا أن معرفة الله في غاية الصعوبة والتعقيد، وأن التوحيد ما هو إلا "لوغرتمات" رياضية معقدة يصعب تحصيلها، فعشنا معركة حدودية مثيرة قادها الكثير ممن كتب في العقيدة كالأشاعرة والمعتزلة وتبعتهم بعض المدارس السلفية إلى مناطقهم تلك فزادوا الجدل جدلا، فأبعدتنا تلك المعارك عن لذائذ التوحيد، وحقائق الإيمان وحلاوته، وسار درس التوحيد يقتفي ذلك الطريق ويسلك منهجيته، فتحولت دروس العقيدة والإيمان إلى ساحات معارك، وزرع ألغام، وانتشار رائحة التصنيف، وفحص ألفاظ الخصم بعدسات مكبرة، واستمر السير الإجباري بهذا الإتجاه إلى هذه اللحظات وربما للساعات القادمة.

ولقد زادت كميات المختلف فيه على المتفق عليه وغاب عن مناهج العقيدة إحداث التأثير في النفس ونشر المهابة وتحصيل التوقير لله الذي عاتبنا ﴿ما لَكُم لا تَرجونَ لِلَّهِ وَقارًا﴾ نوح: ١٣

رائعٌ جدا أن يتحول التوحيد إلى جهاز مخابرات نشط على كل تصرفاتك تجاه الآخرين يضبط مسارك العام ويقدمه نموذجا أخاذاً للعالمين.. رائع جدا أن يتحول التوحيد إلى جهاز تنصت على صوت ضميرك.

ومهما يكن من شيء فقد تحول هذا الأسلوب إلى سلوك يضعف الهيبة لله، وأدخل في القلب الوحشة، وانتشرت القسوه في ضواحي النفس.. من جهة أخرى يعيش الكثير من أساتذة التوحيد وتلاميذه على ضفافه الساحلية دون أن تبتل أقدامهم بمائه، ويعيشونه مجرد محفوظات وقواميس شفوية يتقنون مصطلحاته بعيدا عن الأثر المعبر عنه، والنشاط الفعال الدال عليه.

وبات التوحيد مجرد "علكة" في لسان أستاذ لا ينفذ كنهه إلى سلوكه ولا يتوغل معناه في تصرفاته.. وتحول عند كثير من مُلقيه وأساتذته إلى سطحية مجردة عن العمق، وألفاظ حادة لا تحمل لذائذ الإيمان، وفروقات دقيقة بين الفرق، ومنطقة نشطة لتوزيع كميات الضلال والانحراف، وتسجيل إشعار: "في عقيدتك خلل".

الدين كمية من القيم ﴿دينًا قِيَمًا﴾ الأنعام: ١٦١، والتوحيد أرقاها ومبتغاها، لكنه لا يثمر معزولا عن باقي أخواته من القيم، فجاء مصاحبا للجودة والإحسان ﴿وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ الإسراء: ٢٣. ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا﴾ الأنعام: ١٥١، وصاحَبَ أخلاقا أُخر. إذ لا يستقيم توحيد مع غش، وإيمان مع عبث وتخريب وظلم وخداع.

إن الله يأمر بالتوحيد ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فهذه آثار التوحيد ورفقاؤه، ولا يمكن أن يمشي وحيدا دونها.. يأمركم بالتوحيد ويأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.

البيئات التي ينشط فيها الظلم وزملاؤه بيئات طاردة للتوحيد بمفهومه القرآني الدقيق الذي ناضل الأنبياء قاطبة لنشره على ظهر الكوكب.. ما قيمة التوحيد لغة واصطلاحا والإنسانية لا مكان لها بجواره ولا وجود لأخواتها من القيم الكبرى تتماشى معه وتنسجم.

قابلت سائقا "فلبينيا" غير مسلم فسألته لم لا يسلم وهو يعيش منذ سنوات في بلاد المسلمين، فالإسلام عدل ورحمة ومودة فقال: لم أرَ ما تقول في صاحب المنزل الذي لا يدع التهليل من لسانه، وتنطق أفعاله بالظلم، والإقتار، وأكل الحقوق، وسوء المعاملة.

دعى نبي الله شعيب – عليه السلام – إلى التوحيد وكانت مهمته القصوى مكافحة الفساد الاقتصادي، إذ في هذه المنطقة انتهك التوحيد وهُتك، ودعى نبي الله لوط عليه السلام إلى التوحيد وكانت مهمته الكبرى مكافحة الفساد الأخلاقي المتسرطن في تلك البقاع، وفي ثنايا تلك المهمة أسفر التوحيد وأشرق، ودعى نبي الله موسى عليه السلام إلى التوحيد وكانت مهمته الجسورة مكافحة الفساد السياسي وتفتيت كتل الاستبداد التي صنعت من فرعون ربا وإلها وقدمته قسريا ليُعبد من دون الله.

التوحيد لم يتوغل في عمقنا كما يجب حين بات أساتذة العقيدة لا يجيدون نقل آثارها إلينا ووقفوا على أطلال المصطلحات يرددون تعريفاتها، وتركوا أسلوب القرآن.

وهكذا سار باقي الأنبياء يواجهون عصابات إجرامية تكدر صفو التوحيد وتخرجه بممارساتها عن مساره العام، وتُذْهبُ عنه بهاءه. ولو كان التوحيد مجرد ورقة عمل تنظيرية لتلك الأقوام لكانوا أول المبادرين.. هذه هي المهارات التطبيقية لمفردات التوحيد وأهدافه التي تنقله من حدود المعرفة النظرية إلى منطقة العمل الجاد.. 

رائعٌ جدا أن يتحول التوحيد إلى جهاز مخابرات نشط على كل تصرفاتك تجاه الآخرين يضبط مسارك العام ويقدمه نموذجا أخاذاً للعالمين.. رائع جدا أن يتحول التوحيد إلى جهاز تنصت على صوت ضميرك الداخلي يسمع كل ما يختلج في غرفك الداخلية المظلمة من ظنون وتصورات عن البشر يزنهم بها ويحكم… أصبحنا للأسف نقدم نموذجا مشوها لديننا ونرسم تضخما شنيعا حين نقدس التوحيد ونحن أول من ينتهكه، ولا ترى أركان الإيمان الستة أعمدة تستقيم بها الحياة.

قابلت موظفاً في إحدى الشركات فشرح لي أنه يحفظ (كتاب التوحيد) ويعيد تسميعه يوميا عن ظهر قلب على زملائه؛ لكن زملاءه يتحدثون عن تراكم مئات المعاملات على درج مكتبه والناس بانتظارها. فقلت له: (كتاب التوحيد) هو تلك الملفات التي تزدحم بها قضايا الناس بين يديك.

يحدثك أحدهم عن التوحيد وهو ساخط على رزقه، يتندر بالأجير وهو يردد لا إله إلا الله، ينهر السائل ولسانه رطب بالتهليل… إن التوحيد لم يتوغل في عمقنا كما يجب حين بات أساتذة العقيدة لا يجيدون نقل آثارها إلينا ووقفوا على أطلال المصطلحات يرددون تعريفاتها، وتركوا أسلوب القرآن في شرح مفرداتها وتثبيت أجزائها في الروح تتجمل بها وتغدو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.