شعار قسم مدونات

الوجه الآخر

blogs - الحقيقة الوجه الآخر
جاء من أقصى المدينة، يتألم من ضربة المجرم، ويسعى ليحافظ على عينه الأخرى وقد فقد الأولى، منظره يبعث على الشفقة، ودمع عينه غزير وكأنما اجتمع مجرى الدمع في العينين في عين واحدة، يتأوه ويشتكي ويتظلم. قاضي القضاة هاله المنظر وأرقه الحدث، كيف لمجرم أن يتجرأ على إنسان ليفقده إحدى حبيبتيه! بدأ القاضي يطمئن الجريح، ودعا الطبيب ليضمد جراحه ويواسيه، وأخذ على نفسه العهد أن يقتص للكسير المكلوم من المجرم الجاني. وبعد لحظات حضر مستشار القاضي فرأى القاضي، وقد تغير وتكدر وتنمر، فسأله عن السبب؟ فلم يزد عن أشار إلى الجريح الذي فقئت عينه. فهم المستشار سر المسألة وهمس في أذن القاضي: لقد رأيت رجلاً يقوده رجلان إليك وقد فقئت عيناه ولعله يكون خصمه. وهنا انتبه القاضي وكأنما استيقظ من كابوس مرعب، واستحضر حالاً قصة الوجه الآخر، إن هذه القصة على رمزيتها تحمل إشارة واضحة لضرورة الانتباه للوجه الآخر من الحقيقة.

لم يخطر ببال سليمان عليه السلام الوجه الآخر لغياب الهدهد عندما تفقد الطير، ولم يخطر ببال داوود عليه السلام الوجه الآخر لحرص الرجل على ضم نعجة أخيه الوحيدة إلى نعاجه ليكمل بها المائة، وهكذا يتكرر ظهور الوجه الآخر بعد أن ملأ الوجه الأول المكان حتى لم يعد يرى الإنسان غيره.

تلك حقيقة إنسانية تعود إلى ضعف الإنسان وعجزه عن الإحاطة بكل شيء، إلا أنه لا يعذر فيها حين يتبدى له الوجه الآخر وتتضح معالمه، يمكن للوجه الآخر للحقيقة أن يجعل الإنسان يغير من توجهاته ويعيد النظر في خطواته، وهذا يجعله أكثر ثقة وتبصرا في كل طريق يسلكه، إلا أنه -رغم توفر مصادر المعلومات وسهولة البحث- أصبح هذا الاحتياط عسيراً وشاقاً.

إن مصادر المعلومات على كثرتها قد أصيب كثير منها بداء التحيز والاستقطاب، ذلك الداء الذي يجعل الباحث المبتدئ عن الحقيقة أسيراً لوجه منها، وقد يوقعه في أخطاء منهجية كبيرة أبرزها التطرف في إصدار الأحكام.

قال أحدهم: انظر إلى طريقة القتل الوحشية التي يقوم بها الفلسطينيون لجنود الاحتلال!
أليس هناك أوجه أخرى تتجلى في أنحاء فلسطين؟!

نحكم بالفشل على خططنا المستقبلية حين نعلق النجاح أو الفشل السابق على شماعة واحدة أو نربطها بسبب واحد، فقد تجعلنا هذه الطريقة في التفكير نستهلك جهودنا.

قال أحدهم: إن المعزوفات الموسيقية تصنع إنساناً معتدلا!
ألا يوجد موسيقيون التحقوا بتنظيمات إرهابية؟!

قال أحدهم: إن الموسيقى محرمة تحريماً قاطعاً!
ألا يوجد من العلماء من قال بغير هذا القول؟!

قال أحدهم: إنني حين استخدمت العصا مع تلاميذي تحسن تعلمهم!
أليس هناك وجوه تربوية أخرى أوجعتها العصا؟

قالت إحداهن: تلك المرأة تعيش حياة مستقلة وحققت نجاحاً حين تخففت من قيود الأسرة وارتباطاتها!
أليس هناك حقائق وتفاصيل وإشكالات من وجه آخر في حياتها؟

قال أحدهم: إن الدول العظمى أفضل منا في كل شيء!
أليس هناك أشياء نحن أفضل منهم فيها؟

إن تغييب أوجه من الحقيقة يعود بالضرر البالغ على نظرتنا وفهمنا لقضايانا، ويجعلنا نخطط للفشل في الوقت الذي نظن أننا نشق الطريق للنجاح. وهنا لفتة أخرى، أننا نحكم بالفشل على خططنا المستقبلية حين نعلق النجاح أو الفشل السابق على شماعة واحدة أو نربطها بسبب واحد، فقد تجعلنا هذه الطريقة في التفكير نستهلك جهودنا في معالجة قضايا وهمية أو جانبية ونغفل عن جوانب أكثر خطراً وأهمية، كما أنها تقيد حركتنا وتقلل الفرصة للتفكير في طرق إبداعية ناجعة.

ومن كل هذا نفهم المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق القائد والعالم والمفكر والمثقف والمعلم في نقل حقائق العلم دون تحيزات، فقد يكون الوجه الآخر الذي نحاول إخفاءه أعلى قيمة للباحث والمتعلم من الوجه الذي ننحاز إليه، ولعل من يقف على السفح يكشف في الوجه الآخر عن كنوز حرم منها المتخندقون.. وقد يكون هذا سر من أسرار خطورة كتمان العلم أو القول بغير علم في الإسلام
"وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا". سورة الإسراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.