شعار قسم مدونات

المهدية النائمة

blogs - tunisia

المهدية، إنها التاسعة صباحاً، مازالت يعم قلبها وأطرافها الهدوء. كنت على الشاطئ، جالسة أتلذذ دفء الشمس وأطالع كتاباً مفتوحاً. لم يكذب القائل إنها المدينة الأجمل لراحة ما بعد التقاعد. في مثل هذا الطقس الشتوي المشرق تستطيع غض النظر عن التلوث والغبار الذي يجوب تونس كلها، وتركز اهتمامك على مواطن الجمال فقط.
 

تركت مجلسي قبالة البحر وتوجهت إلى وكالة السفر لأجل موعد ضبطته مسبقاً. كان علي أن أعبر المدينة العتيقة مشيا قبل بلوغ محطة سيارات الأجرة الصفراء. لا أدري ما سر القشعريرة التي سرت في بدني بمجرد الخطو إلى داخل المدينة. كانت التفاصيل تشدّني كالعادة وكان قلبي ينبض لها عشقاً، وروحي تكاد تفارقني لتعانقها وتطير بها.
 

الهدوء هنا أعمق، يوشك أن يبتلعني، بالكاد أسمع صوت حذائي لولا طقطقة المنسج بين الزقاق والآخر. قال لي رجل أحترمه ذات مرة أن للحياة التي نعيشها طرقا كهذه الأزقة، بعضها يؤدي إلى بعض ومعظمها مغلق لا يؤدي إلى شيء؛ يومها جُبنا المدينة شرقاً وغرباً لفهم معمارها، وعلقنا كثيراً على التشوهات التي عمد إليها بعض المتساكنين بهدم عدد من المنازل وتشييد أخرى عصرية مخالفة تماماً للهندسة العتيقة. ما زلت أحمل الضغينة ذاتها للآخرين الذين يستغنون من بيع آثار حضارات قديمة.
 

البرج والبحر والسقيفة والأزقة وباقي المهدية بكل ما حملته وتحمله من هدوء، أسميها "الجميلة النائمة" في انتظار أمير يفك طلاسم سحرها ويوقظها للحياة

حتى المقاهي المختلطة مازالت تتثاوب هنا، لن تفتح قبل نصف ساعة أخرى على الأكثر. سبق وسريت صباحاً إلى مقهى المدينة طمعاً في جلسة رائقة مع كوب القهوة والكتاب ولكن صدّني مشهد الكراسي المتراكمة والباب المغلق، وفقدت رغبة المطالعة في مقهى منذ ذلك اليوم. الآن أمر من الطريق ذاتها للمرة العشرين ربما والمتاجر على الطرفين مازالت موصده. السقيفة الكحلة مفتاح المدينة ومعبرها وأشهر معالمها تستقبلني بخلوّها وبردها وظلامها.
 

كان ليكون ممتعاً لو نظمت حملة نظافة في الداخل، مع محاولة ترميم للحجارة التي وقع اقتلاعها، أو تحويل المكان إلى معرض للفنون بدل أن يجعل منه المتسوّلون -خلف أعين الحاكم- موقعاً استراتيجياً لعرض براعتهم في التمويه والتمثيل أمام القادمين والرائحين من المواطنين والأجانب.
 

بدأت الحركية تتسارع بعض الشيء في الخارج مع تقدم عقارب الساعة. ركبت التاكسي وتحاملت على نفسي وأنا أقنعها بأني على خير ما يرام، وأن الذي عايشته خلال الساعتين لن يتبخر وسأتمكن من تدوين ملاحظاتي حالما أصل إلى وجهتي. لم يكن باستطاعتي الوصول إلى هاتفي في جيب المعطف بسبب الزحام، ولكن صورة البرج العثماني الذي رأيته عندما كنت على الشاطئ زاحمتني أكثر، وزادت وطأة شرودي. تخيلتني وأنا أودعه من بعيد كأنه جزء منّي أو كأنّي جزء منه. مع أنّي لا أذكر ما فيه بسبب طول أمد الغياب منذ الزيارة الأولى له حين كان عمري إحدى عشر سنة.
 

المراقبة من بعيد أضفت على عظمته شيئا من العاطفة. بدا لي وهو قائم على مشارف البحر خزاناً تاريخياً مثيراً لفضولي وعطشي للحضارة والأصالة. ونظرت حولي من موقعي ذاك فإذا الإطلالة عجائبية مدهشة؛ البحر منبسط رقراق تدغدغ وجهه النسمات الباردة وتعكس تعرجاته الصغيرة أشعة الشمس لامعة براقة، وزوارق صيد قليلة منتشرة على سطحه، والبرج يشرف على كل شيء من علوه. البرج والبحر والسقيفة والأزقة وباقي المهدية بكل ما حملته وتحمله من هدوء، أسميها "الجميلة النائمة" في انتظار أمير يفك طلاسم سحرها ويوقظها للحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.