شعار قسم مدونات

هل العذاب قبل الحساب؟

مدونات، الموت

أتردد كثيرا قبل إكمال مقال أو كتابات لأي من العلمانيين ممن اعتادوا بث شبهات عتيقة قد أكل الدهر عليها وشرب فهو كمن ينبش قبور عفنة ليستخرج مومياء محنطة ثم يعمد لوضع مساحيق تجميل عليها وعرضها على الجمهور متباهيا بجمالها الفاتن. ولكن ما لفت انتباهي في قضية عذاب القبر أن أحدهم قد تصنع حب الدين وحب الله ونفي عذاب القبر من جهة أن الله عدل ورحيم ولا يصح أن يعذب أحد دون أن يحاسبه يوم القيامة و من يثبت عذاب القبر يدعي على الله أنه يظلم الناس فهو يعذبهم أولا ثم يحاسبهم يوم القيامة ثم شبه في هذه الشبهة الله بالشرطي الذي يعذب المعارضين في أقسام الشرطة في مصر ثم يبحث له عن تهمة.

والنفاق الناضح في مثل هذا الكلام لا يخفى على عاقل فالعلماني إن كان له حق طبقا لما يدعيه في فصل الدين عن الحياة العامة فليس له الحق في الدفاع عن الله إذ كما هو واضح إنما يفعل ذلك للطعن في معتقدات دينيه لا تخص الحياة العامة بل تخص الدين نفسه ومعتقدات شخصية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بسيطرة الدين أي من مناحي الحياة الاجتماعية والعامة. وإني لأشعر بالغثيان عندما يخرج العلماني بثياب الواعظين ينزه الله والدين عن (المساوئ) التي يلصقها المتدين بالله والدين متبجحا بالدفاع عن الإسلام ولا يدري المسكين أنه مكشوف للعامة قبل الخاصة ومحكوم على عليه بالسخرية والاستهزاء فهو كالشرطي (المخبر) يجلس يراقب الناس ويحاول التخفي بنظاره شمسية وشاربه العريض.

من عظيم لطف الله بعباده أنه يكشف لهم كيفية الحساب قبل أن يلاقوه بطريقة هي في حقيقتها تمثل غاية العدل والإحسان

ولو كلف نفسه العلماني وتدبر القرآن كما يتدبر كتب المستشرقين الطاعنين لعلم يقينا أنه ليس انتظارا للحساب ولكن رحمة الله هي من أجلت العذاب الأليم لما بعد الموت ولولا ذلك ما ترك على ظهرها من دابة. يقول المولى تبارك وتعالى "وَرَبّك الْغَفُور ذُو الرَّحْمَة لَوْ يُؤَاخِذهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَاب بَلْ لَهُمْ مَوْعِد لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونه مَوْئِلًا".

والحساب في الإسلام ليس محصورا أو مقصورا على يوم القيامة بل غاية الأمر أن ما يحدث في هذا اليوم هو الحساب النهائي حتى يلقى الإنسان مصيره بعد أن يمر بعدة مراحل من الحساب إذ أن رحمة الله تقتضي إرسال التنبيهات والتحذيرات وتوجيه نوع من العقاب المبدئي قبل الحساب والعقاب النهائي.

فالعذاب ليس مترتب على الحساب فقد يحدث أن يعذب الله أناس حتى قبل الموت وفي الدنيا وليس في القبر وليس ثمة حساب والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى "لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ" وهذا العذاب له غاية إذ هو على هونه بالمقارنة بعذاب الأخرة تنبيه وتحذير للمعذَب ولمن يعلم حاله وهو من تمام عدله ورحمته إذ أن علم الله بالظالم وأحواله تستوجب العقاب الحالي والنهائي له ولكن الله يعجل له بعض عذابه لعله يرجع أو يكون عبرة لغيره أو يشفي الله بها صدور قوم مؤمنين والحِكَم في هذا الأمر كثيرة ومتعددة.

ومن عظيم لطف الله بعباده أنه يكشف لهم كيفية الحساب قبل أن يلاقوه بطريقة هي في حقيقتها تمثل غاية العدل والإحسان فأولا كشف الله لكيفية الحساب هي رحمة من الله بنا ثم إن آليه هذا الحساب تمثل غاية الدقة وذلك لتحقيق أعلى درجات العدالة فهناك عدة (جهات) تكشف جرم أو براءة الإنسان فهناك ملك للحسنات وملك أخر للسيئات وهناك ميزان توضع فيه هذه الحسنات وتقارن بالسيئات وهناك شهود يرتضيهم هذا الإنسان وهو جسده (يده وقدمه وسائر جوارحه) يقول تعالى "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". وهذا الخطاب القرآني الفريد هو خطاب عقلي بامتياز إذا أن الإنسان يوم القيامة ستتكشف له حقيقة جرائمه فهو ينتقل إلى عالم الغيب ويكون شاهدا فيه أفليس هذا بكاف ليعذب الله من عصاه فما الحاجة إذا لحساب.
 

غاية كشف الحساب للناس هي تحقيق الطمأنينة والثقة في الله وغاية الحساب ذاته هي كشف حقيقة العصاة وليس تأسيس للجزاء

إن الله يخاطب العقل البشري بما يمكن إقناعه به إذا يقرر له أن سيلقى معاملة عادلة ولن تكون هناك شاردة ولا واردة إلا وستسجل عليه وسيحاسب عليها على الرغم من أن الله قادر بعدله أن يثبت للإنسان جرمه ولكنه أوكل لملكين وشهود إثبات حسنات وسيئات الإنسان حتى يتقبل عقل الإنسان هذا الحساب ويقتنع بالعدل إذ أن العقل يقنع ويرضى إذا علم أن حسابه سيكون من عدة جهات وليست من جهة واحدة.

ومن أمثلة مخاطبة الله للعقل والتي تثبت أن الله هو خالق هذا العقل ويعلم جيدا ما يمكن أن يقتنع به الحيث القدسي الذي قال فيه "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".

فحقيقة الأمر أننا كلنا من ملك الله وإذا أعطى الله ملكه لمن يملكه فكيف ينقص؟ ولكن الله شاء أن يخاطب العقل بما يقنعه وذلك بتقديم صورة ذهنية للحقيقة بتقنية بلاغية يتقبلها العقل بسهولة ففي الحديث شبه الله ما ينقص من ملكه مثل ما ينقص (المخيط من البحر) فيدرك العقل حينها أنه شيء متناهي الصغر ويهمله فتصل الرسالة أنه لا ينقص شيء فيما لو قال أنه لا ينقص شيء وسكت لأحدث ذلك نوع من الشك في العقل فكأن الله سهل للعقل البشري اقتناعه بالحقيقة بتصوير ذهني لا يخرج الحقيقة عن مضمونها. وبالعودة لعذاب القبر نجد أن ادعاء الظلم الواقع على العبد بتعذيبه قبل الحساب هو محض هراء فالثابت أن العذاب النهائي يوم القيامة وهو الأشد لن يكون إلا بعد الحساب النهائي أما ما دون ذلك فموجود في الدنيا ثم في القبر والأمر الأخر أن هناك اصلا حساب في القبر.

وذلك قبل العذاب ففي الحديث "إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا: أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله..، وأما الكافر أو المنافق، وفي رواية: وأما الكافر والمنافق- فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه فيقال: لا دريت ولا تليت".
 
وهذ الأسئلة تثبت نوع من الحساب في القبر وهو في حقيقته ليس حساب مؤسس ولكنه كاشف إذ ليست إجابة هذه الأسئلة هي ما يترتب عليها الجزاء ولكنها تكشف سبب الجزاء الذي سيلاقيه العبد وهذه هي فلسفة الحساب بعد الموت فالله بعلمه وقدرته وحكمته وعدله هو من يحكم على الناس ولا ينتظر إجابة من عبد حتى يحدد من سيعذب ومن يرحم. فغاية كشف الحساب للناس هي تحقيق الطمأنينة والثقة في الله وغاية الحساب ذاته هي كشف حقيقة العصاة وليس تأسيس للجزاء. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.