شعار قسم مدونات

ماذا فعل بنا الإنترنت؟

blogs-smart phones

الإنترنت عالمٌ هائلٌ ضخم مفتوح ومجاني! لا.. ليس مجانيّاً تماماً كما نظنّ للوهلة الأولى، إنه يستنزفنا أيما استنزاف، بحيث ندفع له أغلى ضريبة من الممكن أن ندفعها في حياتنا: "أعمارنا"، وبحيث أنه لو كان ارتياده مدفوعاً بمال، محسوباً معدوداً لكان أرخصَ بكثير، حين يؤدي ذلك إلى تقنين استخدامه، وما أهون إنفاق مال أمام إنفاق عمر.
 

ويعد علماء النفس استخدام الإنترنت أكثر من ساعتين يوميّاً حالةً من حالات الإدمان التي تحتاج إلى علاج، بحيث أن المدمن يفقد حياته بالكامل وينصهر داخل شاشة الإنترنت. وهو إدمان حقيقي تماماً كإدمان الكحوليات والمخدّرات، إذ إن الإدمان هو حالة يصل إليها الجسم حين يعتاد استخدام شيءٍ ما باستمرار وبشغف، فيتأثر الدماغ ويفرز الدوبامين "محفز عصبي" يصبح على إثره الإنسان نشط جدًا، ويفرز مادة السيريتونين "ويسمى هرمون السعادة" فيزيد من تعلق الإنسان وارتباطه بهذا الشيء. ومن علامات هذا الإدمان إلى جانب استخدامه أكثر من ساعتين يوميّاً، الاضطراب عند فقدان الإنترنت، وفقدان الواقعية، والتجرؤ على خطوط ما كنت تجرؤ على تخطيها سابقاً.

لقد صنع الإنترنت -لمدمنينه- عالماً افتراضي لا دخلَ له بالواقع فأوجد نماذج الأفراد التي تمثّل شخصيتين شخصية سماوية ومقرّها "البروفايل"، وشخصية لا مسمى لها موجودة على أرض الواقع.

لم يكن الإنترنت بهذه المجانية التي توهمناها، كلا، إننا مع كل جرعةٍ إضافيًّة من هذا الكأس ندفع كثيرًا مما غاب عنّا، إذ أنه يضعف قدرات الفرد من التركيز والتفكير والتقبّل الاجتماعي فيفقد الواحد منا الاجتماعية في داخله، ويصبح غير قادر على التعامل مع الآخرين، وتستطيع أن تطالع ذلك في صورة الأصدقاء الذين اجتمعوا ليقضوا وقتاً سويّاً وكل واحد منهم متسمّر في شاشة هاتفه، إذ يعيش الواحد منا في هذا العالم الافتراضي طوال الوقت حتى يخيل إليه أنه حقيقيّ.
 

أجّل لقد فرّغ منا مضمون حياتنا، وأوزان عمرنا بحيث أنّ أكبر إنجاز لدى الفرد أصبح: "تغيير صورة البروفايل"، "نشر بوست"، "حصد لايكات وكومنتات"، وكفى الله المؤمنين شر القتال!، لقد بثّ إلينا وهم البطولة الزائفة حين صنع أبطالاً لم يكن بنيانهم أكثر من عداد "اللايك والشير"، أما في ميزان الإنجاز الحقيقيّ الواقعيّ فهو لا شيء، صفر! إنجاز؟ لا، عمل؟ لا، دراسة وفهم حقيقي؟ لا؟ تحدث مع أمه؟ زار صديقه؟ علّم أحدًا؟ تعلّم؟ لا لا لا..
 

لقد توهمنا بأنا نحقق ذواتنا ونؤدي ما علينا من خلاله، فأقعدنا ذلك عن أدائها وتحقيقها فعليّاً على أرض الواقع. وإنّ الإنترنت على أحسن الأحوال وفي ظروف استخدامه الجيدة حتى، قتل ملكات ومشاريع طلاب العلم، حين ظنوا بحسن نية أنه مرجع المعلومة الأعظم والأول والذي لا يُعلى عليه، في حين أن "جوجل" لا يمكن أن يكون معلّماً، لأنه يعطي معلومة، لكنه لا يُربّي، سيعلّم طالب الطبّ مثلاً كيف يفحص مريضاً وسيعطيه البروتوكول كاملاً، لكنه لن يبثّ إليه شخصية الطبيب القائد القدوة، لن يدرّبه على أن يركّز عينه على وجه المريض ليلحظ موضع ألمه، لن ينبّهه إلى قص أظافره، ولن يمدّه بنبرة الصوت أو الملكة والحس الطبي.

ليس طالب الطب فقط! والهندسة والآداب وغيره، أقصد: جوجل أو الإنترنت لا يربي، قد يعرض معلومةً ولربما يكون مشكوك في أصلها، لكنه لا يعطي التربية والمهارة والخبرة، وهذا هو أسوأ تدمير قام به الإنترنت، حين غاب طلبة العلم عن محاضراتهم، وحضروا على شاشات الإنترنت، فطال عملية التعلّم أيضاً وفرّغها من هيبتها وحقيقتها، وفي أغلب الحالات غبَّرَ أرضها بالأخطاء والشائعات والسطور التي لا أصل لها.
 

لقد صنع الإنترنت -لمدمنينه- عالماً افتراضي لا دخلَ له بالواقع فأوجد نماذج الأفراد التي تمثّل شخصيتين شخصية سماوية ومقرّها "البروفايل"، وشخصية لا مسمى لها موجودة على أرض الواقع، وقد أجّج الوحشة بين الناس، بحيث ترى الابن جالساً مع أبيه على وضع "الصامت"، دون حديث أو حركة أو إيماءة أو شعور، وكيف سيفهم معنى الشعور، وهو الذي عوّدته شاشته على أن التبسّم لا يتعدّى فكرة السمايل الأصفر وكي تؤديه ما عليك إلا أن تكتب نقطتين وقوس! ولم يعِ أبداً أن التبسم الحقيقي معناه إشراقٌ من القلب، معناه أحبّك، معناه كن بخير، سأشتاق لك، أو معناه موجوع!، أحتاجك، ضمّني..
 

سترد نفسك الآن، وحقق ذاتك، أجج مشاعرك، واصنع كينونتك الاجتماعية، ولا تسمح بأن تضيع في غابات الإنترنت، وتقضيه وأنت مُلقى على هامشٍ ما قشّة مُصفرّة خاوية.

لقد قتل لنا معانٍ كثيرة! وأسكن نبض الحياة وحرارة المفاهيم، فلم نعد أكثر من نماذج إلكترونية، نطبق حياةً غير مفهومة، حتى الصورة التي كنا نلتقطها كي تصبح ذكرى نرتعش إذا مرّرنا أصابعنا على وجوهها وتبث لنا شيئاً من الحياة والنشوة إذ التقطت حين تكريم أو جائزة أو تخرّج، حتى الصورة أصبحت غير ذلك، فامتهنّا واستهلكنا معناها ولم نعد نلتقطها إلا لأجل الشير واللايك، بغض النظر عن المعنى والمضمون، قد نلتقطها في السيارة، في المطبخ، في سرير المرض! دون أي تفكير بمعنى أو فكرة نضمّنها لهذه الصورة.
 

لقد فقدنا فكرة الحياة بطبيعتها وبراءتها، وسيطر علينا هذا الإدمان، علينا فعلاً أن نستردّ أنفسنا من الإنترنت وبسرعة، كي لا يأتي اليوم الذي ندرك فيه أننا خسرنا أكبر خسارة. وهذه العملية لا تحتاج أكثر من قوة شخصية، وقرار وتدرّج وانتظام، وقيادة.. أجل كن أنتَ من يقود الشاشة ولا تسمح لها أن تقودك من صفحة لصفحة، حدّد أنك مثلاً دخلت كي تبحث عن كذا وتتصفح كذا وتتحدث مع فلان وتسلّم على فلان، دون أن تدع للشاشة أن تشفط وقتك بأزرارها.
 

استرد نفسك الآن، وحقق ذاتك، أجج مشاعرك، واصنع كينونتك الاجتماعية، تفاعل مع أهلك، لاعب الأطفال الصغار، مارس رياضاتك وهواياتك، أنجز، ثقّل عمرك، ولا تسمح بأن تضيع في غابات الإنترنت، وتقضيه وأنت مُلقى على هامشٍ ما قشّة مُصفرّة خاوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.