شعار قسم مدونات

لا تعيدوني إليه..

blogs-الغربة

هاهي بشائر السنة الثالثة تطل من بعيد تلوّح لي بيديها وكأنها تقول لي… توقف عن عد الأيام وابدأ بعد السنين.. فخانات الأيام تكثر وقد تضيق عليها سطور دماغك الذي امتلأ بخرائط مدن لم تكن تفكر بزيارتها.. ها هي بداية عقدك الثالث تأتي متزامنة مع ترفعك للسنة ثالثة غربة بدرجات عالية، تتداخل التواريخ يصعب تفريق الحدث إذا كان قبل أو بعد انتقالك من هذه الشقة أو بعدها أو قبل هذا العمل أو بعده لم تعد تهتم بتنميق الأحداث وتجهيز الأوراق فحقيبة ظهرك مليئة بأوراق وعقود ومستندات لم تعتد على الاحتفاظ بها من قبل ُربما لصغر سنك حينها أو ربما لأنها لم تكن مهمة لم أستطع التفريق حتى الأن، مع ازدياد رغبتي في العودة هناك رغبات أكبر منها تتوسلني بأن لا تعد.. أشعر بصوتها يرن في أذني لا تعد لا تعد إياك أن تذهب وحين يمسي المساء في وسط هدوء أكثر المدن ضجيجا يعود الصوت الآخر ليصدع رأسي أن أركض برجلك ذاك البلد سكنك.

ضجيج الطرفين في ذاك الهدوء يولد رغبتي في خلق ضجيج حقيقي لكي يلازموا الصمت ولو لبرهة أريد النوم. لست بهذا الشخص الذي يتصنع محبته لوطنه فأنا لم أعد أهتم بوطن اعتدت أن أكون في وسط غريب ولكن شيئا في تلك المدينة الصغيرة يشدني إليها.

في هذه المناسبة تصيبني الحيرة هل أحزن لتركي لمكان نشأتي أم أفرح لكوني تخلصت من مسقط رأسي، لم أعد أستطيع فهم نفسي فأنا أعقد من أن أستطيع فَهمي، الأن من أنا ومن سأكون إن كنت هناك، لا يهم فأنا هو أنا الآن، ربما الأفضل لي البقاء هنا، ولكن ما دمت أعلم هذا لم لا أشعر بالارتياح؟ 
 

أضحك على نفسي حين لم يتح لي الدخول بجامعة حلب، كنت أشعر بخيبة، لم أكن أدري أنها من أصغر الخيبات وستتوالى بعدها الخيبة تلو الأخرى، ولم أكن أعلم أن فشلي بدخولها مهد لي للدخول بخير منها

إذا ربما الأفضل العودة، وإن كان كذلك لم لا أكاد أطيق فكرة العودة أساسا؟ هل الحل في الذهاب أو العودة؟ لكل منها مساوئ ومنافع وكلاهما إثمهُمها أكبر من نفعهما، كيف يجب أن يحب وطنه الرجل الذي لم يعِ من مدن وبلدات وطنه سوى الدماء والدمار؟ كيف يجب أن يحبه الطفل الذي فقد منزله وعوضوه عن منزله بخيمة لا تقي حرا ولا تدفع بردا؟ ما الذي جنيته من وطن ما إن بلغت الرشد فيه حتى بدأت أخاف من كل زي عسكري بل قبل أن ابلغ الرشد حتى! فلا أريد العودة بعد الآن ولا تعيدوني إليه.

أما خيار البقاء في بلد الاغتراب بعيدا عن حنان الأم و قسوة الأب وعطف الأخ، لم أشعر بما قد شعر به الشعراء عند الاغتراب، كنت أخاف من الغربة من وصف من وصفها، ووصف مرارتها ورسم أعباءها وشرح مساوئها، لا أنكر أني وجدت بعضها ولكن ليس بالقسوة التي زرعوها في مخيلتنا، لم أبك بتلك الحرقة التي يصفونها، لم أتمنى عودتي كما تمنوها، لم تكن كل الأراضي بيداء فارغة في نظري فقد أحببت أغلب المشاهد الجميلة التي واجهتني، سعيد في الغربة، لا آبه لعادة في العيد ولا أخاف العودة بعد منتصف الليل، لا شيء يربطني بالمنزل سوى سرير ووسادة، لا ذكريات، لا حديث، ولا حتى وجبة طعام، أي أحمق يحتاج المزيد من القيود لكي تجمع يديه إلى بعضهما، أو المزيد من الأشخاص يربط حاضره أو مستقبله بهم، أو وقتا أكثر من ساعات ثرثرة شخص لا تكاد ترى مغزىً من مجريات أحداث يومه، لا تحتاج سوى ورقة وقلم، وهواء منعش، غير هذا ألقه في البحر الذي ستجلس وتكتب أمامه، الآن أكتب من ضفة النهر أمزق ورقة أرميها، أحزن على أمور ثم أذكر أن ما خسرته كان أعظم .. 

أضحك على نفسي حين لم يتح لي الدخول بجامعة حلب، كنت أشعر بخيبة، لم أكن أدري أنها من أصغر الخيبات وستتوالى بعدها الخيبة تلو الأخرى، ولم أكن أعلم أن فشلي بدخولها مهد لي للدخول بخير منها، فهل جميع الخيبات التي تلتها هي نجاح بحد ذاتها! 

الحل الوحيد في هذه الحياة هو ألا تستقر، فلا ترتبط بمكان أو أشخاص، فأنت لا بد مفارقه، لا ترتبط بعمل لا يغذي دماغك، أن تستعد لفراق أيا كان في أي زمان ومكان، لا تعيدوني إلى بلد نُهبت فيه، سُلبت منه طفولة من سُلب، لا تعيدوني إلى سجني ما لم أرتكب جريمة الاشتياق، ما دام سجاني حيا.. لا تعيدوني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.