شعار قسم مدونات

كتابة التاريخ حسب ما يطلبه الجمهور

BLOGS- الحروب
يعتبر علم التاريخ من أشرف العلوم بعد علوم الشريعة، بل إن كثيراً من العلماء عدوه من علوم الشريعة، فثلث آيات القرآن الكريم هي أخبار الأمم السابقة، والله عز وجل أمرنا في كثير من الآيات أن نسير في الأرض ونتدبر حال تلك الأمم، قال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

إن الهدف الأسمى من دراسة التاريخ هو أخذ العبرة من الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، فللتاريخ أهمية كبيرة في صنع مستقبل الأمة، لذلك يجب على الأمة أفراداً ومؤسسات أن تمتلك الحد الأدنى من المعرفة والوعي في التاريخ، وتوظفه خير توظيف في رسم المستقبل، فالذي لا يفهم تاريخه، ولا يحسن قراءته، ومن لم يتعلم من أخطاء الماضي، فإنه حتماً سيتخبط في طريقه، وسيقع لا محالة في أخطاء كان الأجرد أن يتجنبها لو أنه درس التاريخ جيداً.


يستمر الكاتب باختيار شخصياته ويوزعها على طول العالم الإسلامي وعرضه، ليدغدغ مشاعر الجمهور، ويضرب بعرض الحائط حقائق التاريخ، فليس مهماً أن نقول الحقيقة، المهم أن يرضى الناس عنا.

إن تعلم التاريخ وتدبر دروسه واجب على الأمة أفراداً وجماعات ومؤسسات، فالتاريخ مليء بالدروس، ودراسته تكون بهدف التعلم من تلك الدروس، وليس للتسلية والترويح عن النفس، وهذا ما حدث فعلاً، فقد انحرف الهدف من دراسة التاريخ من التعلم وأخذ الدروس من الماضي لاستشراف المستقبل إلى جعله مادة للتسلية والسمر والاستمتاع بسماع قصص وحكايات حدثت، وأخرى لم تحدث، يرويها القصاص على أنها قصص حقيقية. ويذهب القصاص بعيداً في تزويرهم وتحريفهم فيضعون لمسات فنية في تلك القصص التي ابتدعوها في مخيلاتهم وينسبون أشعاراً لشخصيات تلك القصص.

لقد تحولت كثير من الكتب التاريخية إلى مادة للتسلية والمرح والسمر وإضاعة الوقت في سهرات جميلة تزينها قصص تاريخية، وفي سبيل ذلك فلا يتورع الكاتب أن يزين كتابه ويزخرفه بلمسات فنية، فيأتي على قصة حقيقية، ويضيف عليها باقة من الأكاذيب التي لا سند له بها، أو يأتي بقصص كاملة لم تحدث أساساً، وتكون روايات القصاص مادة لكتابه، وأحياناً يكون خياله الواسع هو مادة كتابه.

وكل هذا إرضاء لأذواق الجمهور من عوام الناس؛ فالإنسان بطبيعته يحب القصص الجديدة والمثيرة، ومنذ فجر التاريخ بنت أمم حضاراتها وثقافاتها على الخرافات والأساطير، حتى أن معظم الأمم جعلت دياناتها وعقائدها عبارة عن خرافات وأساطير، كالسريان واليونان الذين جعلوا لكل شيء إلها، وهذه الآلهة لها عالمها الخاص، وربما يقوم إله بالزواج من آلهة وإنجاب إله صغير.

وأما عوام الناس من أمة الإسلام، فإن عقيدتهم لا تقبل مثل هذه الأساطير، لذلك توجهت أذواقهم إلى قصص الأمم السابقة المذكورة في القرآن الكريم، وعندها يتدخل المؤرخ ليلبي رغبة جمهوره، فيأتي على قصة وردت في القرآن الكريم، ثم يضع عليها لمساته الفنية من تحريف وتزوير مستعيناً بروايات القصاص، ثم تنتقل لمؤرخ آخر ويضع عليها لمساته الخاصة به، فتكون القصة قصيرة تحمل معان سامية، فيجعلونها طويلة فارغة من المعنى..

فمثلاً قصة ابني آدم وردت في بضع آيات من سورة المائدة، ولم ترد في موضع آخر في القرآن الكريم، ولا يصح حديث نبوي فيها، فجاء القصاص والمؤرخون وجعلوها قصة درامية، وكل يدلو بدلوه ويضع لمساته الفنية فيها، فابتكروا أسماء قابيل وهابيل وإقليميا ولبودا، وحاكوا قصصاً وحوارات بين الشخصيات، حتى وصل الأمر إلى نسب أشعار لآدم عليه السلام يرثي فيها ابنه. ويتكرر الأمر جميع قصص القرآن الكريم فلمسات القصاص واضحة بينه في كتب التفسير والتاريخ.

ويعتبر موضوع كتابة التاريخ حسب أهواء الناس، موضوع قديم جديد، ففي كل فترة تظهر كتب تتحدث عن أشياء يرغب الناس بسماعها، ففي القديم كانت رغبات الناس تنحصر بسماع قصص الأمم السابقة، وأما اليوم فيميل الذوق العام لسماع قصص الأبطال والعظماء، وطبعاً نجد كتاباً و مؤرخين مستعدين وجاهزين لتلبية رغبة الجمهور، فيأتون بشخصيات من التاريخ الإسلامي، ويجعلونها شخصيات أسطورية، ويرفعونها إلى مصاف الملائكة، فهي شخصيات عظيمة لا تخطئ، معصومة عن الخطأ والزلل، وأي انتقاد لها يعتبر جريمة لا تغتفر.

أحيانا يذهب بعضهم بعيداً جداً، فقد قام أحد الكتاب بتأليف كتاب عن عظماء أمة الإسلام، وجعل الخرافات والأساطير مادة كتابه، وجميع شخصياته متساوين في المكانة والفضل، وكلهم معصومون عن الخطأ والزلل، بل و أحضر شخصيات كافرة أجمع العالم على كفرها وجعلها مسلمة بل ومن عظماء أمة الإسلام، فجعل الصابئ ثابت بن قرة والرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن والقسيس آريوس وإسحاق نيوتن والإمبراطور قسطنطين جعلهم جميعاً من عظماء أمة الإسلام، ويتطور الأمر معه فيجعل أمة الهنود الحمر أمة مسلمة ومن عظماء أمة الإسلام.

الإنسان بطبيعته يحب القصص الجديدة والمثيرة، ومنذ فجر التاريخ بنت أمم حضاراتها وثقافاتها على الخرافات والأساطير، حتى أن معظم الأمم جعلت دياناتها وعقائدها عبارة عن خرافات وأساطير، كالسريان واليونان

ولا يكتفي ذلك الكاتب بذكر أمم وشخصيات كافرة ويجعلهم مسلمين عظماء، بل ويجعل شخصيات خائنة أجمع المؤرخون على أنها خائنة كشخصية المتوكل بن الأفطس الذي جعله من عظماء أمة الإسلام، ثم يستمر الكاتب باختيار شخصياته ويوزعها على طول العالم الإسلامي وعرضه، ليدغدغ مشاعر الجمهور، ويضرب بعرض الحائط حقائق التاريخ.

ليس مهماً أن نقول الحقيقة، المهم أن يرضى الناس عنا، وان نثبت لهم أننا أصحاب سبق إعلامي، فمعلوماتنا جديدة ومثيرة، ودائماً نأت بما لم يأت به الأولون والآخرون، وهذا فعلاً ما يطلبه الجمهور بالضبط، فقد انتشر كتاب ذلك الكاتب بين الناس انتشار النار في الهشيم، وأصبحت خرافاته عقيدة عند الجمهور الكريم، الذي يعتقد أن الهنود الحمر فعلاً كانوا مسلمين ويتحدثون اللغة العربية، إلى غير ذلك من الخرافات التي تعتبر فضيحة بكل ما تحمل الكلمة من معنى أمام الباحثين الأجانب، فهي أقرب إلى الكوميديا من الواقع، ومع ذلك فصوتهم عال جداً، ولا أحد يستطيع أن يوقف هذه الظاهرة، ظاهرة التزوير والتدليس إرضاء رغبة الجمهور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.