شعار قسم مدونات

سؤال الأحياء.. خليفة كنفاني

blogs - basel

هل سأبدأ الحديث بالسرد الذي أُريد حتماً أم أنني سأكتب كما يُرضي الأخرين من السُلطات؟! ليس لشك ٍفي مُعتَقدي وصدقي فيما سأقول ولكني أخشى أن تُصيبني لعنة السُلطة في بلادي كما أصابت باسل الأعرج عندما حصل على الإجابة!، وغَسَّان كنفاني عندما ترك السؤال لنا، رُبما هم كانوا مُستعدين للموت أكثر، لكننا لسنا مُستعدين لذلك بعد.

 

رُبما كانت رواية "رجالٌ في الشمس" جوهرة من مجوهرات الكاتب الثائر "غَسَّان كنفاني"، فقد روى لنا فيها حكاية أولئك الآملين في الحياة من الأجيال الثلاثة عندما حدَّثوا أنفسهم باللجوء إلى بلدٍ آخر بحثاً عن حياة أفضل، فقرروا الاختفاء في خزَّان المياه في الشهر الناري "آب" حتى يعبروا الحدود ليدركهم الموت فيه بسبب الحرارة العالية عندما تأخر عنهم سائق الشاحنة وتركهم وكأنهم في فرن للموت فماتوا فيه، ليلقي السائق جثثهم ويحمِّلهم مسؤولية أنفسهم قائلاً "كان عليهم أن يدُّقوا جدار الخزّان"، ماتوا وترك لنا كنفاني سؤالاً في أولئك الرجال الذين عارضوا الشمس عندما قال "لماذا لم يدقّوا جدار الخزّان؟" لقد ترك إجابته للأحياء رغم علمه بها، ترك الإجابة لنا نحن الذين لم نفهم مقصده جيّداً.

كان لنا من صُلب القهر والاحتلال والظُلم السُلطوي والتواطؤ بين السُلطة والاحتلال "كنفانيون" يحملون همَّ الحقيقة رغم كثرة العثرات في الطريق نحو معرفتها

رسالة كنفاني في تلك السنة لم تنتهي، ولم يعلم أحد الإجابة، لكن هُناك من النخبة والمثقفين الذين أصبحوا قريبين جداً من الحصول عليها، فلمَ لم يطرق أولئك الرجال جدار الخزان؟ ذلك الحِمل الثقيل الذي تركه لنا الكاتب الثائر لم يكن شيئاً عادياً، بل كانت حقيقة تقتل كل من يعلَمُها، حقيقة تُهدِّد حياة كُل من تمسُّ عقله، لكن القلائل والقلائل جداً هم من اهتموا بالإجابة على ذلك السؤال، وهم ذاتهم الذين يعلمون أن العلاقة بين دنو الموت منهم وبين علمهم بتلك الإجابة هي علاقة طردية بشكل مهيب، فكُلما تقربوا من الحقيقة كُلما تقرب الموت منهم أكثر.

 

من بين أولئك النخبة القلائل كان باسل الأعرج الطبيب المثقف والكاتب الثوري، الشاب الذي لم يتوقف أبداً عن البحث حتى يصل إلى إجابة تشفي صدره من داء الجهل بها، كان يبحث جيداً ويكتب أكثر ويعمل أكثر فأكثر حتى أوصلته الإجابة إلى الانتهاء من كتابة وصيته، الوصية التي قرأتها بتمعّن حتى علمت إلى أي درجة قاسى باسل وعانى عندما وصل إلى العلم بشيءٍ قلّص أمامه الخيارات حتى فضّل الموت على العيش معه!

 

كانت وصيّته مدخلاً لعالمٍ خفي لا نعلمه بعد، لكن عرفه غسان كنفاني وأهدى الثائرين إليه مدخلاً حتى يمتلكوا الإجابة والحقائق حول التاريخ والمُستقبل، وحمله من بعده باسل الأعرج الذي كتب في ختام وصيّته الآتي:
"أنا الآن أسيرُ نحو حتفي راضياً مُقتنعاً وجدتُّ أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هُناك أبلغ وأفصح من فِعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أُجيب أنا عنكم؟"

 

لا أعلم، ولا أحد يعلم لكنهم يخشون حقّاً أن يحملوا عنك ذلك الإرث من الحقيقة، يعلمون أن الحقيقة التي علمتها تقتل كُل من يحملها، وأنت كُنت تعرف ما يعنيه ذلك ورغم كل شيء حملتها وأذِنتَ لها حتى ذهَبَت بكَ بعيداً نحو السماء، حيث العدالة التي تحتضن الحقيقة رغم قُبحها، فكان لنا من صُلب القهر والاحتلال والظُلم السُلطوي والتواطؤ بين السُلطة والاحتلال "كنفانيون" يحملون همَّ الحقيقة رغم كثرة العثرات في الطريق نحو معرفتها، لنتساءل مرة أخرى "لمِاذا لم يدُّقوا جدار الخزّان؟" كي يرد علينا الذي قُتل بعد أن عرف الإجابة بـ"هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أُجيب أنا عنكم؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.