شعار قسم مدونات

النظام الوكيل

blogs كنتم خير أمة أخرجت للناس

قال سبحانه وبحمده (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11. لقد عُطل المشروع السياسي القرآني الراشدي مبكراً في حياة الأمة الإسلامية؛ فجمد حق الأمة وأهل الحل والعقد في الانتخاب وحقوق علمائها في التزكية، واختلف الناس في إلزامية الشورى مذاهب شتى.. وتوج كل ذلك بفتوى إمامة من غلب بسيفه على أمة القرآن ..!

لقد نُقل نظام الأمة من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض والسلطنات والممالك العائلية، وقد استغرق الانحراف والتحريف للنظام، والتكييف للمفاهيم والسلوكيات دهراً طويلاً .. 

لقد بدأ الأمر كموازنة بين التسليم للصالح دون الأصلح، ولسد أبواب الفتن والتهارج.. ثم تطور الوضع بالإجبار على قبول التوريث كنظام سياسي، وقيدت إرادة الأمة المسلمة في حقوق الاختيار والانتخاب، فتقلص ثم سقط حق التراضي، وتبدل مفهوم النظام الأجير؛ ليتحول الحاكم بالتدريج من موظف يعمل لدى الأمة براتب؛ نظير تطبيق وتحقيق أحكام الشريعة ومقاصدها، وإدارته للمصالح المعتبرة، وائتمانه على رسالة التكريم الإلهي للإنسان، والذود عن المقدسات والحمى؛ ليتحول بدلاً عن كل ذلك إلى غول يقود آلة جهنمية تصد الناس عن السبيل، وتفتك بالحرية والمفاهيم والشريعة والإنسان والتكريم …!! 

في واقع الحال، لقد انحرف المسار سياسياً، ثم جاء الفكر الإرجائي ليعطي الغطاء الفقهي ابتداءً من إسقاط العمل من مسمى الإيمان وانتهاءً بلزوم الخضوع والتسليم لكل جبار، وليبرر ويؤصل وينظر ويحشد ويدفع تجاه التسليم للأمر الواقع؛ فانحرف المسار من العمل بمقتضى الخطاب السياسي النبوي الراشدي، إلى التدرج لقبول الخطاب السياسي المؤول، وانتهى الأمر بالرضوخ كأمر واقع للخطاب المحرف المناقض لأصول الرشد والمعمق لمفاهيم الاستلاب والإكراه …!! 

إننا بحاجة إلى مجتمع يؤثر في حركة وتفكير صناع القرار؛ بحيث يصوغ قراراتهم ويؤثر في توجهاتهم بما يتوافق مع الرؤية المجتمعية للإنجازات والبرامج المستهدفة والقيم الضابطة

إن فلسفة النظام الوكيل (الأجير) لدى الأمة، تعطي أصل الحق للأمة المسلمة، وتؤسس لضرورة تحديد مفاهيم المرجعية والسيادة، والصلاحيات والهوامش الممنوحة للإدارة السياسية المنتخبة؛ الأمر الذي يؤكد على حاجتنا للاستبصار في أمورنا كحاجتنا في حياتنا للماء وللهواء، وهذا يستدعي إعادة تجديد قراءة خطاب الوحي المنزل، والتأسيس والتمهيد لتحويل الحقوق الدستورية للأمة إلى مفاهيم ومناهج وسياسات وتطبيقات ومؤسسات، ترعى كرامة وحقوق الأمة، وتحفظ مكتسباتها، وترتقي بها في الأسباب.. 

وبالنظر في أصل الخطاب القرآني، نجد قواعد هذا التفكير في آيات محكمات كقوله تبارك وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران 110  (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة 143 

إن استقرار وترسخ هذا الوعي الاجتماعي بهذه الحقوق الدستورية، يجعل من هوية مجتمعنا وبنيته المعرفية ومؤسساته وتشكيلاته المدنية؛ قوة فاعلة لها أثرها ووجودها ونفوذها في الحفاظ على نقاوة المسار التشريعي، وشفافية الرقابة القانونية على أداء المتنفذين، وسيكسبها الخبرة والقدرة على التصحيح والتعديل والمواءمة، بين ضرورات الحاجة المعيشية للمجتمع، والآفاق الرسالية للمنهج، ومرونة القرار السياسي والإداري للدولة .. 

إننا بهذه المقدمة، نستشرف آفاق مسؤولية الشهود الواقعة على كواهل هذا الجيل المؤمن برسالته والملتزم بمقاصدها وأخلاقياتها، إننا نتطلع من خلال مراقي التكريم الإلهي للإنسان بهذه الشريعة الربانية الخاتمة؛ إلى وجود مجتمع قوي يسير بخطىً ثابتة نحو صلاح دينه وإعمار دنياه، وأن نتجاوز أوهام الهوة المفتعلة بين الروح والمادة، وبين غراس الدنيا وحصاد الآخرة.. 

إننا بحاجة إلى مجتمع يؤثر في حركة وتفكير صناع القرار؛ بحيث يصوغ قراراتهم ويؤثر في توجهاتهم بما يتوافق مع الرؤية المجتمعية للإنجازات والبرامج المستهدفة والقيم الضابطة.. والمعنى أنه بقدر تماسك وترسخ البنية الفكرية والثقافية للمجتمع ومؤسساته؛ تتكون الأغراض السياسية، وتتشكل الرؤى التنموية في أذهان القائمين على تحريك دوائر المجتمع، والمؤثرين في الارتقاء بمكوناته.. 

إن الاتفاق والتوثيق والالتزام بإيجاد الآليات المؤسساتية التي تضمن شراكة المجتمع في أداء دور "الدعم والرقابة"، سيعطي ويمنح الأمن والاستقرار الاجتماعي الضروريين لاستمرار حركة الدولة نحو الاستشراف والإعمار والبناء

إن أهم وظائف "النظام الوكيل" أن يسخر المقدرات والمواهب المتاحة للمجتمع، في توسيع دوائر الممكن لاحتضان طاقات المبدعين وتوجيهها في مسار التخطيط والإعمار، والاستشراف والتنمية والبناء.. لخدمة المجتمع والأقربون من حوله، في اتجاه العطاء الحضاري الإنساني العام.. 

إن افتراض وجود هذا المجتمع المؤسساتي القوي المتماسك؛ يعطي مشروعات وتطلعات "النظام الوكيل"؛ الزخم الكافي لإقلاعها ونجاحها، ويجعل من أحلام اليوم حقائق الغد، ومن خطط ومشروعات على الورق، إلى واقع ينضح بالعطاءات النافذة المعاشة.. إنه سيمنحنا الفرصة الحقيقية لترجمة أفكار القيادة السياسية إلى واقع ملموس ..  فإذا ما علمنا أن صناع القرار بحاجة دائمة إلى التصويب؛ كما هي حاجتهم للإعانة على ما فيه صلاح المجتمع.. فإن هذين الدورين المهمين "الدعم والمراقبة"، هما أهم الأدوار المرتقبة من المجتمع القوي ومؤسساته الداعمة.. 

إن الاتفاق والتوثيق والالتزام بإيجاد هذه الآليات المؤسساتية التي تضمن شراكة المجتمع في أداء دور "الدعم والرقابة"، سيعطي ويمنح الأمن والاستقرار الاجتماعي الضروريين لاستمرار حركة الدولة نحو الاستشراف والإعمار والبناء.. إنه سيضمن عدم تخلي المجتمع عن طموحات الدولة، أو اللجوء إلى سحب الثقة أو إسقاط الشرعية، أو أي شكل من أشكال المواجهة الدامية.. فالدولة دولة المجتمع، والمشروع سيكون مشروعه الواعد .. قال تعالى ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) الأعراف

أيها الأبناء الأوفياء .. هذه سفينتنا، تغذ بنا في متاهات اللجج إلى نواحي المرافئ الآمنة..  وإنما هي شرائع وهدايات وقراءة رشد وتدبر في خطاب الوحي المنزل، وفي أقباس السنة النبوية المطهرة، وتتبع لخطى ومغارز الخلفاء الراشدين من قبلنا .. قال سبحانه ( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) الأعراف 3

للوقوف على جذور الخلل، أنصح بقراءة كتاب ( الحرية أو الطوفان ) للدكتور حاكم المطيري ولمعرفة جهود مدارس الإصلاح، أنصح بكتاب ( هكذا عادت القدس وهكذا ظهر جيل صلاح الدين ) للدكتور ماجد عرسان الكيلاني ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.