شعار قسم مدونات

الراهب الذي باع سيارته الفيراري

BLOGS رواية

هل تخيلت ذلك يوماً؟ أن تقضي عمرك تجمع الأموال وتتابع الأعمال مرتقياً بدرجاتك المهنية لتعتلي قمة الهرم وتبني اسم شهرة لا نظير له، متربعاً على قمة العالم بحسب ظنك ينظر إليك الجميع من البعيد غِبطةً أن يكونوا مثلك. وفي لحظة ما تدرك كم أصبحت حياتك سخيفة لا معنى لها فتتخلى عن كل شيء لتسموا بروحك بحثاً عن السعادة الحقيقة في أعمق أعماق روحك الأزلية.

يأخذنا روبن شارما بروايته في رحلة روحانية مليئة بالتساؤلات. تساؤلات عن علاقتك مع نفسك قبل الآخرين عن حبك لنفسك ورضاك عنها، عن تحريرها وإنقاذها في طريقك لمساعدة الآخرين فها هو يحدثك على لسان بطل روايته متسائلاً؛ كيف يمكنك الاهتمام لأمر الآخرين إذا لم يكن باستطاعتك حتى أن تهتم لأمرك؟ وكيف لك أن تفعل الخير لو لم تشعر بالرضا عن نفسك؟ لا لا يمكنني أن أحبك، لو لم أستطع أن أحب نفسي.

ومن هنا تبدأ الحكاية، حكاية الراهب الذي باع سيارته الفيراري. إذا كنت تملك الوقت للغوص في البعيد ولم تقرأها بعد فتوقف عن القراءة وعد عندما تنهيها. أما إذا كنت تبحث عن خلاصة التجربة ولبُّ حكمتها فأبقى معي أرويها لك بتصرف.

يبدأ إصلاح الذات بالنسبة لشارما عند بحيرة الماء الغناء تلك، أتذكرها، رمزية بحيرة الماء في الرواية أعرب عنها روبن صراحةً بأنها وسيلة للسيطرة على فكرك بالتفكير التقابلي حيثُ أستخدمها كمرآة لرؤية الجانب الإيجابي لكل ما تمر به

تبدأ الرحلة من حيثُ نقف، فعن يمينك بحيرة غنَّاء جميلة ومقابلك منارة طويلة تنير الأفق وبينهما طريقٌ طويل مليء بالزهور. أغمض عينيك ليتشكل المشهد وأنظر مصارع السومو ذو الكيبل الوردي يركض نحو المنارة ليجتاز حقل الأزهار ومن ثم يعبر طريق ضيقة محاطة بالألماس من الجانبين فتزل قدمه بساعة ذهبية ملقاة. هل أغمضت عينيك، هل شاهدت ذلك؟ ما ذاك؟ إنها حديقة العقل؛ خريطتك للحرية. 

تُعبر حديقة العقل تلك عن فلسفة عجيبة يؤمن بها شارما، لنتدارسها معاً. تعتمد فلسفة شارما على بناء الإنسان الهادف ذو الرؤية المحب لنفسه والواثق بها باعتباره الركيزة الأولى في المجتمع لا يصلح المجتمع إلا بصلاحها لذا فإن أي عملية إصلاحية يجب أن يتخللها مصلح داخلي قبل الانسياق في سبيل إصلاح الأمة ولعله محق فمرجعنا الإسلامي يحث على إصلاح الذات أولاً لإصلاح المجتمع أيضاً. 

قال الله تعالى في كتابه العزيز: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية 11)؛ تتحدث الآية عن ضرورة البدء بأنفسنا أولاً في طريقنا للتغيير وفي حديث رسول الله صلى الله عليه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، رواه البخاري ومسلم؛ وفي هذا الحديث صورة واضحة صريحة من تواد وتراحم المؤمنين بل وتمني الخير الذي تتمناه لنفسك لأخيك – الفرد المسلم في مجتمعك- و لزاماً يتحقق صلاح المجتمع عامةً بذلك؛ فصلاح المجتمع إذاً يبدأ بنية داخلية منك ألا وهي أن تحب لأخيك -من الخير- في الله ما تُحبهُ لنفسك. 

يبدأ إصلاح الذات بالنسبة لشارما عند بحيرة الماء الغناء تلك، أتذكرها، رمزية بحيرة الماء في الرواية أعرب عنها روبن صراحةً بأنها وسيلة للسيطرة على فكرك بالتفكير التقابلي حيثُ أستخدمها كمرآة لرؤية الجانب الإيجابي لكل ما تمر به وسرها بالتصور النهائي لما تريد أن تكون في المستقبل؛ كلما واجهتك الصعاب تأمل تلك البحيرة لتذكرك بما ستكون، كن إيجابياً هذا هو سرُّ البحيرة.

ننتقل للمعْلم الثاني في حديقةِ عقلنا، ألا وهي المنارة. رمزية المنارة بسيطة وعميقة فهي نور مرشد على الطريق، يقول شارما إن وضع أهداف -صغيرة أم كبيرة- قابلة للتحقيق على عدة مستويات، القريبة، المتوسطة والبعيدة المدى يجعلها كالمنارة في حياتك فكلما تاهت بك السبل، ركز نظرك نحو أهدافك -المنارة – فترشدك الطريق الصحيح نحوها.

للأهداف عند شارما شروط لتشكيل المنارة؛ أهمها موافقتها لرسالتك في الحياة وأن تكون مؤدية لغايتك العظمى المراد تحقيقها في حياتك. بتحقيق الشرطين تتشكل المنارة.

لم ننتهي بعد، هل تذكر حقل الأزهار، مصارع السومو، الساعة الذهبية وطريق الألماس، إن لهم رمزية عميقة مرتبطة بتشكيل الأهداف والثبات عليها. كلما صعب عليك أمر تحديد الهدف تذكر حقل الأزهار، قف وتأملها، أختر زهرة وتأمل لُبها، درب عقلك على التركيز بها متفادياً التفكير بأي شيء آخر. 

من تحديد الأهداف ننتقل للعمل على تحقيقها ليأتي مصارع السومو كرمز للكايزن الياباني(أي الاستمرارية) فسر نجاحك بتحقيق الأهداف هو الاستمرار والمحاولة الدائمة المتطلبة بالالتزام بأهدافك فتذكر هنا الكيبل الوردي المشدود كرمز الالتزام و المصارع للاستمرارية، يتابع مصارع السومو ركضه ملتزماً لتحقيق أهدافه فتزل قدمه بساعة ذهبية؛ إنها رمزية الوقت. 

نهايةً أنت بحاجة للشخصية المنسجمة؛ ضمن مبادئ المثابرة، التعاطف، التواضع، الصبر، الأمانة، الشجاعة لتعيش البساطة؛ مركزاً على أولويات الحياة. عندها فقط سيمكنك الانتباه على الألماس بجانبي الطريق الضيق مذكراً إياك أن تتمتع بالرحلة

تذكر أن للأهداف فترة صلاحية وتاريخ نهاية، يجب كتابه الأهداف ضمن جدول زمني، والعمل على تحقيق هذه الاهداف ضمن زمنها، بعضُ الأهداف قد فات أوانها وبعضها الآخر من المبكر البدء بها ولذلك علينا بناء العادات اللازمة لتحقيق أهدافنا، عادات التركيز والصحة النفسية والغذائية المرتبطة بالصحة الجسدية. 

عليك أن تتحلى بالشجاعة اللازمة للعمل على بناء عادات أساسية للحفاظ على الاستمرارية فبقاعدة 21 يوم مثلاً وباستخدام بعض الطرق المساعدة ستتمكن من تحدي العديد من العقبات. 

من أنجع الطرق لبناء العادات هي؛ الاختلاء والتمتع بالصمت لتكثيف التركيز. العناية الجسدية بالرياضة وتناول الأغذية الحية الطازجة من خضروات وفواكة فالعقل السليم في الجسم السليم. المعرفة الوفيرة؛ تنمية معرفتك العقلية بالقراءة. لتطوير تفكيرك وفهم أكثر لشخصيتك عليك بالتأمل الشخصي؛ تخصيص أوقات للتفكير، وكتابة المذكرات.

أعطِ جسمك قسطاً كافياً من النوم ولا تقتله كسلاً لساعات يكفيك الاستيقاظ المبكر، فجراً -صلاة الفجر- فست ساعات من النوم تكفي. التفكر والاسترخاء بالسماع والاستمتاع بالإيجابية بسماع تلاوات القرآن الكريم، وصوت الطبيعة من مياه جارية وأمطار ساقطة وعصافير مزقزقة فهي سر الراحة النفسية. تذكر أن كلماتك هي من تصنعك؛ للكلمة الملفوظة تأثير عجيب؛ التصور الذاتي مهم، قل لنفسك دائماً انا مسلم أنا قوي، أنا قادر بحول الله.

نهايةً أنت بحاجة للشخصية المنسجمة؛ ضمن مبادئ المثابرة، التعاطف، التواضع، الصبر، الأمانة، الشجاعة لتعيش البساطة؛ مركزاً على أولويات الحياة. عندها فقط سيمكنك الانتباه على الألماس بجانبي الطريق الضيق مذكراً إياك أن تتمتع بالرحلة وأن لا بأس بأن تتوقف قليلاً للاستمتاع. 

إن الحياة رحلة بل هي مجموعة تجارب؛ الحياة ليس فيها أخطاء ولكن دروس ولا وجود لشيء يدعى التجربة السلبية ولكن ثمة فرصة للنمو والتعلم والمضي قدما على درب التمكن من الذات فمن الصراع تنبع القوة وحتى الألم من الممكن أن يكون معلما بارعا، يقول شارما. بذلك تكون قد ضبط نفسك بإرادة صلبة وحققت حريتك بعزيمة لتكون أنت إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.