شعار قسم مدونات

"الخضّة" المعرفية في مجتمعاتنا المغلقة

blogs - talk
1- المعلومات:
تتزايد كمية المعلومات المشاركة بشكل هائل يومياً منذ نشأة ثورة المعلومات في العالم، مما جعل حجم المعلومات أضخم مما يمكن استيعابه وساهم في زيادة عدد المؤثرين في هذا المنتوج بشكل ضخم جداً. كما جعل سرعة انتشار الأفكار والأحداث تكاد تكون لحظية وفي نفس وقت حدوثها بفارق أجزاء من الثانية. هذا الأمر أثّر بشكل ملحوظ على المجتمعات المغلقة التي تسير وفق نسق محدود وأفق واضح، وضوحاً يتفق مع حجم المعرفة المكتسبة لديها، المعلومة للجميع بالضرورة، والمعتقد بها بلا شك أو ريب!

٢- ارتباك الاطلاع:
حين يقوم هذا الشخص -صاحب الخلفية المعرفية المغلقة على أفكار محدودة- بالاطلاع على أية فكرة مهما كبرت أو صغرت، تتراءى له بعض الحقائق والأفكار بشكل متجزأ. ذلك أن السنّة في المعرفة والوعي أنها تتشكل بصورة تراكمية على مدار فترة زمنية معينة ومن خلال مصادر متعددة للمعرفة. غير أن هذا الشخص يسابق هذا الزمن ليصدر قرارات وأحكاماً دون اتضاح للصورة واكتمال للفكرة. كما أنه إذا استهوى طرْف هذا الأمر يتوغل في المعرفة بنفس الاتجاه وبحجمه المتجزأ من مجمل الحقيقة دون حتمية حول إمكانية وصوله لنتيجة صحيحة وواضحة.

تلعب أنظمة التعليم في مجتمعاتنا دوراً قوياً جداً في إغلاق أدمغة الناس عن البحث والتفكير وتلغي بشكل ما فكرة اختلاف الآراء عن منطقهم.

هذا الارتباك في الاطلاع سبب رئيسي في تطرّف الأفكار سواء تجاه التراخي في مسائل كانت مطروحة في وسطه على أنها مبدئية أساسية وإما التشدد في أمور كانت معالجتها أسهل من منظور وسطه المحيط. وهذا الارتباك في الاطلاع يحصل لكثير من محْدَثي الثقافة أو ممن توسعوا في اتجاهاتهم المعرفية بشكل مجتزأ أو ممن اطلعوا على ثقافات مختلفة من خلال المعايشة المفاجئة فيما بينهم مما سبب لهم صدمة بشكل أو بآخر.

٣- مدّعي التنوير:
ومن الأمور المرافقة لهذا الحال ظهور بعض مدّعي التنوير في المجتمع في محاولة لصيد لقب السبق في استحداث مفهوم معين أو إيراد رأي يصبح الجمهور في خانته، بحيث يصنع هزّة في مفاهيم المجتمع تتحول مع الزمن لفكرة تنويرية تمحو ما سبقها من فكر مظلم غير مستندٍ على حقائق. هؤلاء الأشخاص يفشلون عادة ولو بعد حين لأن أدلتهم وبراهينهم مجتزأة أو لأنهم لا يخوضون في الأمر عن ثقلٍ معرفي ناجم عن البحث والدراسة والتجريب بشكل تخصصي كافٍ ولا يملكون استناداً حقيقياً لهذه الأفكار.

٤- التنويريون الحقيقيون:
ذلك لا يعني أن كل شخص يحاول طرح الأفكار بطريقة مختلفة أو إبداء آراء تخالف السائد في إطاره هو مدّعٍ أو لا يستحق النظر في رأيه. هناك أشخاص يمتلكون قاعدة معرفية عريضة خاضت التجريب والتحقق كما أنهم يطرحون رؤى من منطلق يفيد المجتمعات ويحجمون عن آرائهم المخالفة بما ليس فيه نفع ولا ضرر وبما لا يضيف مفيداً من طرحه على عموم الناس. هؤلاء يستحقون النظر في آرائهم ونقاشها وإخضاعها لموازين الاجتهاد. وكنت أود ذكر بعض الأمثلة هنا لكن بعد النصح والتفكير وجدت من الأفضل ألا أفعل كي لا تحصر الأمثلة في مجالات محددة ولا تنحصر النماذج على البعض بشكل مخصص.

٥- نظام التعليم:

لا يعني سماعك لفكرة معينة أو مراودة فكرك وخاطرك لرأي ما في مسألة ما هو بالضرورة نهاية نضوج رأيك في المسألة؛ عليك أن تضطلع أكثر وتسمع أكثر وتجرب أكثر.

تلعب أنظمة التعليم في مجتمعاتنا دوراً قوياً جداً في إغلاق أدمغة الناس عن البحث والتفكير وتلغي بشكل ما فكرة اختلاف الآراء عن منطقهم. فاحتكار الحقيقة في المنهاج التعليمي وما يترتب على مخالفة محتواه (فيما يمكن مخالفته من تعدد الآراء) يجعل نظرة المجتمع نحو تعدد الآراء والأفكار متطرفاً بصفته خطأ واضح لا يمكن احتمال وجوده أصلاً. وهذا لا يسمح لطرح أفضل في قضايانا ومسائلنا وفي نفس الوقت يعطي مجالاً رحباً للراغبين في تصدّر المجتمع بشكل لامنطقي من بوابة مخالفة المتعارف عليه ويجعل الأمر سهلاً عليهم.

٦- كي لا تتعرض لهذه ال(خضّة):
– عليك أن تعي تماماً أن هناك فسحة للكثير من الآراء بخلاف رأيك وبكثير من الأشكال والصور، وكلما قرأت وجربت وخالطت واطلعت أكثر ستجد كثيراً من التباين والاختلاف في أهم الأمور وأبسطها وفي أكثر الأمور بديهية وأعقدها وبين أكثر الناس وعياً وبين العوام فتلك سنة كونية منذ الأزل ولا يمكن للبشرية أن تتفق على فكرة واحدة حتى وإن كان هذا الأمر هو الإله ذاته، فكيف تتفق على ما هو أبسط منه؟!

– لا يعني سماعك لفكرة معينة أو مراودة فكرك وخاطرك لرأي ما في مسألة ما هو بالضرورة نهاية نضوج رأيك في المسألة؛ عليك أن تضطلع أكثر وتسمع أكثر وتجرب أكثر.

– ليس كل من يطرح فكرة غريبة على مسمعك هو شخص تنويري مجدد صاحب رؤية فذة وعقلية عبقرية… لا تنس أننا جميعاً بشر! وعليك أن تتقبل في البداية وجود هكذا شخص ولا تتبنى أو تهاجم رأيه إلا بعد تفكير دقيق بمعطيات المطروح وإحداثياته ولا تغرنك أعداد المؤيدين أو المعارضين ببساطة اضطلع وتعرف، ثم أعمل عقلك، ثم اضطلع وتعرف، ثم أعمل عقلك مجدداً!

– ختاماً… تقبل أفكار بعض الناس لا يعني بالضرورة الموافقة عليها كما لا يعني رفض تبني بعض الأفكار أن حرباً يجب أن تقوم حول المسألة ولا يعني وجود خلل في مجتمع ما أن أنفيه كله وأرفضه بالكامل، كما ليس بالواجب أيضاً أن أقبل كل ما فيه دون وعي أو استناد للحقيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.