شعار قسم مدونات

الاستعصاء التاريخي

blogs - المغرب والجزائر

ما يقارب الستة أشهر هي المدة التي لزمت المغرب ليخرج من حالة الاستعصاء وأزمة تشكيل الحكومة التي من المفترض انبثاقها عن نتائج تشريعيات السابع من أكتوبر 2016. سارت مياه كثيرة وجارفة أخذت في طريقها رئيس الحكومة السابق والمعين مبدئيا عبد الإله بنكيران، وحملت عرفا سياسيا جديدا تجسد في اختيار شخصية من نفس الحزب الأول د. سعد الدين العثماني ليخلف الأمين العام لحزبه.

 

في واقع الأمر ما وقع هو تحصيل حاصل للديمقراطية المعطلة في البلد، والمقاربة المثالية تفترض مناقشة الحدث في عمقه وفي مسبباته التاريخية، والتي أخال أنها غير مرتبطة بالظرفية السياسية الحالية بقدر ما هي تجسيد لعلاقة تاريخية ملتبسة بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية. ولفهم سليم لما حدث، وجب استقراء تاريخ الدولة المغربية الحديثة لما بعد الاستقلال، والذي شهد جولات من الصراع المتجدد بين النخب الحزبية والمؤسسة الملكية، وفي غالب الأحيان خرج النمط التقليدي المخزني في ممارسة السلطة أقوى وأكثر قدرة على ترويض الموالين بالمطلق والموالين مع الاستدراك على حد السواء، أما المعارضون بالمطلق فلا سبيل لهم سوى البقاء على هامش الساحة. 

يعتبر نظام الحكم في المغرب مختلفا عن واقع جيرانه، فقد تعرض البلد لسلطة الحماية الفرنسية مع تواجد دولة مركزية مستقلة تاريخيا عن الامتداد الإسلامي لدول الخلافة المتعاقبة المتركزة في الشرق. وخلال فترة المقاومة والصراع مع المستعمر، ساهمت المؤسسة الملكية في المواجهة وأدت ثمن ذلك نفيا، في مقابل إسهام النخب الحزبية الأولى (حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال، الحزب الشيوعي المغربي…) في تأطير النضال الشعبي والتماهي مع مطالب التحرر. وبعد نيل البلد استقلاله، طفا على الواقع إشكال الشرعية والمشاركة في نظام الحكم بين القصر والأحزاب من جهة، وبين الأحزاب فيما بينها من جهة أخرى.

 

شكلت حكومة التناوب الأولى لحظة مفصلية في تاريخ العمل الحزبي. لقد استطاع المخزن أن يُدخل قطب رحى المعارضة الحزبية (أحزاب الكتلة الديمقراطية) بيت الطاعة، ليسري عليه ما يسري على باقي الأحزاب الصورية

إن المحرك الأساس في هذه العلاقة الجدلية ظل الاستئثار بالسلطة وممارستها بشكل مطلق، وما رجح كفة طرف على الأخر هو هامش المناورة الأكبر الذي استفادت منه المؤسسة الملكية كشرعية واحدة مقابل تعدد الشرعيات الحزبية، مادام الإطار المنصوص عليه لتنظيم الحياة السياسية هو التعددية الحزبية. وهكذا ترسخت الممارسة التقليدية في مقاربة أسلوب ممارسة الحكم من جهة السلطة الملكية، والتي اعتبرت الأحزاب منافسا حول الشرعية الشعبية، وبالتالي وجب تقزيم أدوارها واحتوائها، وعدم فتح الهامش لتجاوز قادتها حجما معينا من الجماهيرية والشعبية، وكذلك كان الحال مع الزعماء التاريخيين الذين أمعن المخزن التقليدي في وقف طموحاتهم، ودفعهم إلى هامش الحياة السياسية رغم تغير الدساتير التي مارس في إطارها هؤلاء الزعماء السياسة ( المهدي بنبركة، علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي… وأخيرا وليس آخرا عبد الإله بنكيران). 

العقلية التقليدية التي تستحكم في السلطة لم تتجاوز حقبة ما بعد الاستقلال الصدامية، بل أكسبتها مسوحا حداثية وألبستها جبة التخريجات الدستورية الملائمة. في المقابل، شكلت حكومة التناوب الأولى لحظة مفصلية في تاريخ العمل الحزبي. لقد استطاع المخزن أن يُدخل قطب رحى المعارضة الحزبية (أحزاب الكتلة الديمقراطية) بيت الطاعة، ليسري عليه ما يسري على باقي الأحزاب الصورية التي صنعتها الإدارة لخدمة أجندة معينة، ويجهز على ما تبقى من رصيدها النضالي إثر انتخابات 2002 التي عرفت تعيين وزير أول تقنوقراطي عوض الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي المنتهية صلاحية ورقته.

 

ولعل السياق الذي تلى هذه الفترة، من أحلك المراحل السياسية في تاريخ المغرب الحديث، حيث السيطرة المطلقة على الأحزاب السياسية واستعمال جهاز التحكم عن بعد لرسم خرائط مواقع القوة داخل أجهزتها الداخلية. الأحزاب السياسية (التي تنازلت طوعا أو كرها عن دورها) لم يشفع لها موقفها المهادن في تجنيب الساحة السياسية محاولة الدخول في تجربة الحزب الوحيد المهيمن على غرار النظام التعددي الصوري التونسي، وما جنبها هذا المصير ولسخرية القدر، هو ذلك الزخم القادم من تونس نفسها إثر سقوط نظام بنعلي وتبعات ما سمي لاحقا ثورات الربيع العربي. 

لم تستفد الأحزاب المغربية من دروس الماضي، ولم تغير خط ممارستها السياسية رغم بعض المحاولات، بدت مجرد انفلات وخروجا عن السياق العام للممارسة الحزبية (تصريحات بنكيران المنفلتة، بلاغ حزب التقدم والاشتراكية قبيل انتخابات 2016، رفض شباط الأمين العام لحزب الاستقلال الاصطفاف ضد العدالة والتنمية عقب انتخابات 2016، رفض بنكيران إملاءات أخنوش لتشكيل التحالف الحكومي)، ليطال جهاز التحكم دواليب حزب العدالة والتنمية ويخضع لمنطق التعليمات والقرارات السياسية، بعدما ظل شبه عصي على ذلك.

خلاصة القول: حل عقدة تكوين الحكومة ليس نهاية أزمة سياسية في المغرب بقدر ما هو تكريس لأزمة بنيوية في المشهد السياسي المغربي تتجسد في حالتين من الجمود:

الحالة الأولى: تكلس عقلية المخزن السياسية واستمرار مقاربتها للسلطة في الإملاء والموافقة، دون هامش لاستقلال القرار الحزبي الذي لم يكن يوما موضع ثقة.

الحالة الثانية: ترسخ الفكرة الانهزامية للأحزاب المغربية، وتقديرها لاستقلالية قرارها الحزبي في حالة التعارض كمعارضة صريحة لسلطة المؤسسة الملكية، مع استعمال ورقة المصلحة العليا للوطن كورقة جاهزة تبرر كل التنازلات مهما كانت درجتها.

مما سبق نختم ونقول: معاول هدم البناء الديمقراطي متعددة، وما إن يتم وضع بضع لبنات حتى يتم تفتيها، فمتى سيتوافق الجميع على إنجاح هذا الورش المجمد؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.