شعار قسم مدونات

أن تمرَّ خطفًا.. مثلَ ريح

blogs رجل ينظر من نافذة

أبأسَ مِن ملامحِ الموت، أقربَ مِن منابعِ الحياة، هكذا نعيش. مثل طائرٍ زارَ غصنًا، ثمَّ هجَره. عندما تلتفتُ أيّها الإنسان إلى الخلف، تُرجعُ البصرَ أبعدَ ممّا تقدر، أبعد. ماذا ترى؟ تخوضُ في الحياة! قدّم البصرَ، ألستَ تخوضُ في الحياة أيضًا؟ قفْ مكانك، ماذا ترى؟ لا ترى إلّا بؤسك. أسألكَ أيُّها الإنسان، ضمنَ كلّ هذا الموت الذي يحيطُ بك، ما الذي يدفعك للبقاء حيًّا حتّى هذه اللحظة؟ 

هذا ما صنعتُه حتّى أبحثَ في إنسانيَ الذي يسكُنُني عن أكثر المغاورِ عمقًا. عن رغبتنا بالعيش. ربما يكون من الصعبِ، والمنالِ البعيد، البحثُ عن المعنى في شأن الإنسان. لكنّني كنتُ واثقًا أنّني لمستُ شيئًا ما في ذاتي عندما سألتُ عن البقاء. عن الشغف. عن مزاولةِ الإنسان مهنة أنسنةِ نفسه كلّما قابلَها.

بعيدًا في مكانٍ قصيّ، وبشكلٍ لا يقتربُ من الموضوع بحيث يجعله ضمنَ أفق الرؤية، أظنّني وصلتُ إلى ما يعنيني -على الأقل- في تكوين بقائي. إنّه الحنين. الحنين، الذي يراكمُ الذكريات. والذكريات، التي بدورها تحتلّ الأماكن، الأشخاص، الأشياء، وتحدّد المعاني، وتعطي القيَم، وتمنح المشاعر. حتّى حبّنا للأوطان ليسَ إلّا حنينًا. فنحنُ لا نحبُّ الوطن، نحبُّ فكرةَ الوطن. هكذا دواليك. تبعًا تبعًا، لبنةً لبنةً من حنين، يتكوّن الذي يسكنُ جنبَيْ هذا الجسد. 

لكنَّ افتراقًا آخر اضطرّني لخوضه. إنّه عنصر الدهشة يا سيّدي. شاغلُ الإنسان الشاغل. لا أتحدّثُ عن البدايات كصانعٍ أوّل ورئيس للدهشة. لكنّه الصمت الذي يرافقُ الأشياء. أكثرَ الأشياء صمتًا، وأبعدها عن منحِ معنى. مثلَ أن تصافحَ النور. أن ترقبَ الموج، يأتيكَ زحفًا، كأنّه طفلٌ بريء. أن تنظرَ إلى السّماء. فقط. سواء والسّماء مستيقظة، أو يغشّيها نمشُ النجوم. أن تغرقَ في نفسك، وأنت تقرأ قصيدة. أن تستمرَّ في العيش، داخلَ العبث. أن تراقبَ ساعةً، تتساءل: يا الله كيف خُلقَ الوقت! أن تمشي على حافّة. أن تعرّي قدميك، وتدفعَ الموت عن نفسك بأن تلمسَ الأرض. أن تجرّبَ القفزَ على الأشياء، كأن تضحكَ لأنّ مصيبةً مرّتْ. أو تبكي لأنّ امرأةً ببابِ كلّ ذي بابٍ قد وقفتْ، أو ربّما سلكتْ، ولم تطرقْ. أن تسأل نفسك: لماذا أفعلُ ما أفعله، ثمّ يخطفكَ الفراغ، فراغٌ مؤلم وبارد، يتخلّلُك. حتّى في لحظة الصمتِ تلك، عندما تعلمُ وقتَها فقط، والمكانُ خالٍ من البشر، أنّكَ وجدتَ نفسك.

إنّني أخشى، أخشى كثيرًا. هذه مهنتي التي أمارسها في هذه الحياة، أن أخشى حدوثَ الأشياء. أيّ شيء. سقوطُ مزهريّة. نفادُ الحبر من قلمٍ ما. انحرافة مِقوَد. كلمة في غير محلّها. لأنّ كلّ شيء، قابلٌ لأن يكون ذات يوم، منبعًا للحنين

ليسَ المرءُ قادرًا على أن يهجرَ الحنين. حتّى إذا حاولَ وتمنّى ذلك، فهو يحنُّ إلى خلوّه مِن الحنين. كنتُ ذات مساءٍ، والسيارةُ تسير، أرقبُ الليل تطعنُه أنوار الأرصفة، في منظرٍ مهيب، خلفَ نافذةٍ شبه ليليّةٍ هي الأخرى، لكنّ طعنات سوادها، كانتْ تتمرّسُها عيناي. وقتها فقط، سمعتُ الليل يصرخ. بملء قلبه. أدرتُ وجهي. قلت: الأدوار لا تتبدّل. وهذا مؤسفٌ أحيانًا. لكنّها تسير، وتستمرُّ في تجديد الحنين، تهجرُ حنينًا قديمًا. تخلقُ حنينًا جديدًا. تلكَ الأدوار التي نعيشها.

أطويكِ يا ذكرايَ كالنّسيانْ
كالإنسانِ يعبرُ جسرَهُ وهْنًا
يخافُ المسَّ والإتيانْ..

إنّني أخشى، أخشى كثيرًا. هذه مهنتي التي أمارسها في هذه الحياة، أن أخشى حدوثَ الأشياء. أيّ شيء. سقوطُ مزهريّة. نفادُ الحبر من قلمٍ ما. انحرافة مِقوَد. كلمة في غير محلّها. لأنّ كلّ شيء، قابلٌ لأن يكون ذات يوم، منبعًا للحنين. أو مثلًا، خوضًا في عمقِ الأمر: ألّا تشعرَ بالطمأنينة، أن تفقدَ الأمان، لأنّ لمعةَ عينِ امرئٍ تحبُّه قد اختفتْ. تبدأ كلّ الحوادث والأشياء تبعثُ على القلق، مثلَ عبور النور، الذي فرَّقَ الظلَّيْن. 

هو الإنسان دومًا، جامعُ النّقائضِ الذي يطفو -ولا يملّ- فوق صفحةِ الأشياء، بكلّ مقتضياتها. في تسلسلِ أدوار حنينه، وتلاحقِها، تراها ترجعُ إلى أصلٍ واحد. ركعةٌ أولى، كلمةٌ أولى، رقصةٌ أولى، قفزةٌ أولى. بكاءٌ أوّل، أو انهيارٌ أوّل ربما.

هذا أنت، تصنعُ نفسك من حنينكَ الأول، أو بعبارةٍ أخرى، أنتَ يا سيّدي: تمرُّ خطفًا، مثلَ ريحٍ، أمامك. دونَ أن تراك. كانحناءة غصنٍ، اختارهُ الله حتّى يُظلَّ بُقعةً مِن الأرض، أو يشغلَ حيّزًا مِن السّماء. أنت صنعةُ حنين. ربّما لغيركَ أيضًا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.