شعار قسم مدونات

هل يعجز الله عن تغيير الماضي؟

blogs - sky
سألني أخٌ لي في الإنسانيةِ، فقالَ: هل يستطيعُ اللهُ أن يغيرَ الماضي؟ في الحقيقةِ لم أجبْه بشكلٍ مكثَّفٍ لطولِ الإجابةِ ودقتِها، ففي الإجابةِ تطرُّقٌ لنظرياتٍ علميةٍ، ومقولاتٍ فلسفيةٍ، فأعطيتُه مفاتيحَ الإجابةِ، ووعدتُه أن أجيبَه لاحقًا حسبَما أفهمُ وأعي وما أنا مقتنعٌ بهِ.. 

بدايةً: حينَ نسألُ هل يستطيعُ الله تغييرَ الماضي؟ علينا أن نحددَ ماضيَ مَنْ، فالزمنُ بالنسبةِ إلي، يختلفُ عنِ الزمنِ بالنسبةِ للسائلِ، ويختلفُ على الزمنِ بالنسبةِ للقارئِ.. إلخ. كيفَ استنتجنا هذا؟ هذا ما يقولُه العلمُ، وبشكلٍ أخصَّ، هذا ما تقولُه النظريةُ النسبيةُ، فبرايان غرين يطرحُ مثالًا في كتابِه (الكون الأنيق) في الصفحةِ الثانيةِ والأربعينَ، عن رجلٍ اشترى سيارةً جديدةً، وتبلغُ سرعتُها مائةً وعشرينَ ميلًا في الساعةِ، وأرادَ أن يجربَها، فأخذَ ساعةً، ووضعَ صاحبًا له على جانبِ الطريقِ ممسكًا بساعةٍ أخرى، ثمَّ تحرَّكَ صاحبُ السيارةِ بسرعةِ مائةٍ وعشرين ميلًا في الثانيةِ، وبينما سجَّلَ صديقُه الزمنَ المستغرقَ، فكانَ ثلاثينَ ثانيةً، كانَ الزمنُ بالنسبةِ لصاحبِ السيارةِ، الذي كانَ يجلسُ فيها ويجربُها يساوي 29.99999999999952، بالطبعِ ليسَ هذا بفرقٍ كبيرٍ؛ وذلكَ لأنَّ السرعةَ بعيدةٌ عن سرعةِ الضَّوءِ، ولو كانَ الأمرُ قريبًا بسرعةِ الضَّوءِ؛ لتأخَّرَت ساعةُ المتحركِ بشكلٍ ملحوظٍ وواضحٍ؛ لسكنَ المتحركُ في ماضِي الساكن.

وما قالَه برايان غرين، ويرددُه علماءُ الفيزياءِ، كانَ من صلبِ نظريةِ آينشتاين (النسبية الخاصة) وذلكَ يتبعُ القانونَ الفيزيائيَّ الذي ينصُّ على أنَّ الفرقَ في الزمنِ، يساوي فرقَ الزمنِ عندَ السكونِ، مقسومًا على الجذرِ التربيعيِّ للواحدِ ناقص مربع السرعة النسبية بين الراصدِ والجسمِ المتحركِ، مقسومًا على مربعِ سرعةِ الضَّوءِ، وهذه المعادلةُ هي التي تحددُ قدرَ التباطؤ الزمني.

من غيرِ العدلِ أن يغيرَ اللهُ الماضيَ، فلو غيَّرَ اللهُ الماضيَ، فكم من إنسانٍ على وجهِ الأرضِ ستنقلبُ حياتُه رأسًا على عقبٍ، وكم من إنسانٍ سيأخذُ مكانَ أخيهِ الإنسانِ عن ظلمٍ

ويقولُ بول ديفيس في كتابِه (كيف تبني آلة الزمن؟) في الصفحة الثالثة والأربعين: "إن بعض الأحداثِ التي تحكمُ عليها بأنها تمثلُ الحاضرَ بالنسبةِ إليكَ، سوفَ يعتبرُها البعض الآخرُ وقائعَ كامنةً فيما يعتبره مستقبله".

إنَّ نجمَ الدبرانِ يبعدُ عنَّا مسافةَ ثلاثٍ وخمسين سنةً ضوئيَّةً، لو كانَ يسكنُه أحدٌ ويمتلكُ أعظمَ التلسكوباتِ، فإنَّه سيرى ما يحدثُ على أرضِنا قبلَ ثلاثٍ وخمسينَ سنةً، فقد يشهدُ تبعاتِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ! ومن يدري؟! ما أريدُ قولَه أنَّ الزمنَ يختلفُ من شخصٍ إلى آخرَ، وما أدراكَ أنِّي الآنَ أجلسُ في ماضيكَ؟! وملاحظةٌ أخيرةٌ: الزمنُ في الفيزياءِ أصبحَ وهمًا من الأوهامِ.

ثانيًا: نظريةُ الفوضى أو الكايوس أو الشواش، وهي التي تنصُّ على أنَّ أبسطَ التغييراتِ، تساهمُ في عملِ أكبرِ الأحداثِ، وهي النظريةُ التي تُعرَفُ بمثالِها المشهورِ (أثر الفراشة) الذي ينصُّ على أنَّ رفةَ جناحِ الفراشِ في فلوريدا، يكونُ مسبِّبًا في عاصفةٍ كبيرةٍ في إلينوي مثلًا، ومن يريدُ قراءَتها بشكلٍ مكثفٍ، فليعد إلى كتابِ (نظرية الفوضى) لجيمس غليك.

وإذا أردنا توضيحَها بشكلٍ عامٍّ، فلنفترض أني تأخرتُ عن الامتحانِ الوزاريِّ للثانويةِ العامةِ، ولم يرضَ المدرسُ أن يدخلَني لأقدمَ الامتحانَ، وبالتالي رسبتُ في الثانويةِ العامةِ وقررتُ أنْ أعيدَ المادةَ في السنةِ اللاحقةِ، ومن خلالِ ذلكَ، فإنَّ حياتي ستنقلبُ رأسًا على عقب، فبدلًا من الدخولِ إلى الجامعةِ، بقيتُ في البيتِ، ثمَّ قررتُ أن أبدأَ العملَ وأن أتخلى عن الدراسةِ، وبالتالي، فلن أحضرَ إلى الجامعةِ، ولن أكونَ يومًا خريجًا، ولن أحملَ شهادةً جامعيةً، أو على الأقل، فلنقل أنني لن ألتقيَ بالذي سألني إذا كانَ اللهُ يستطيعُ تغييرَ الماضي!

وما أريدُ قولَه: إنَّه من غيرِ العدلِ أن يغيرَ اللهُ الماضيَ، فلو غيَّرَ اللهُ الماضيَ، فكم من إنسانٍ على وجهِ الأرضِ ستنقلبُ حياتُه رأسًا على عقبٍ، وكم من إنسانٍ سيأخذُ مكانَ أخيهِ الإنسانِ عن ظلمٍ.. إلخ. 

الزمنُ لا يُعرَفُ من خلالِ التجربةِ، وإنَّما التجربةُ التي يبدأُ الإدراكُ معَها، ولا يمكنُ أن تتمَّ إلا من خلالِ الزمنِ، الذي هو موجودٌ قبلًا في عقولِنا، وليسَ محتاجًا إلى التجربةِ لمعرفتِه.

وأودُّ أن أنوِّهَ هنا على أنَّ اللهَ لا يتعاملُ معَ قوانيننا نحنُ، فبمعتقدنا أنَّ اللهَ عالمُ ما في الأرضِ وما في السماءِ، ويديرُ العالمينَ، فهل تعتقدُ حقًّا أنَّ اللهَ يتعاملُ معَ ماضينا، وينظرُ له كما نحنُ ننظرُ إليهِ؟! لماذا لا يتعاملُ اللهُ معَنا وكأنَّه على نجم الدبرانِ، الذي نسبقُه نحنُ بثلاثةٍ وخمسينَ عامًا؟! إنَّ الزمنَ عندَ اللهِ حاضرٌ، ليسَ عندَه ماضٍ ولا مستقبلٌ، هذه قوانينُنا نحنُ، ولا تنطبقُ على اللهِ سبحانَه وتعالى.

أمَّا بخصوصِ الأدلةِ الفلسفيةِ، فإنَّني سأحتجُّ بفلسفةِ إيمانويل كانت، محدثِ الثورةِ الفلسفيةِ الكبيرةِ في العالمِ الغربيِّ، صاحبِ أشهرِ كتابٍ فلسفيٍّ تقريبًا، وصاحبِ الكتابِ الذي لا تخلو مكتبةُ الفيلسوفِ منه (نقد العقل المحض) والذي يشيرُ فيهِ إلى أنَّ الزمنَ ليسَ موضوعًا للإدراكِ، وإنَّما هو وسيلةٌ للإدراكِ، بمعنى أنَّنا لا نتعاملُ معَ الزمنِ على أنَّه واقعٌ موجودٌ، وإنَّما هو وهميٌّ كي تستطيعَ عقولُنا إدراكَ الأشياءِ، فدونَ الزمنِ لا يمكنُنا إدراكُ شيءٍ، فهوُ من المقولاتِ العقليةِ الإبستمولوجيةِ السابقةِ على كلِّ معرفةٍ، فالزمنُ لا يُعرَفُ من خلالِ التجربةِ، وإنَّما التجربةُ التي يبدأُ الإدراكُ معَها، ولا يمكنُ أن تتمَّ إلا من خلالِ الزمنِ، الذي هو موجودٌ قبلًا في عقولِنا، وليسَ محتاجًا إلى التجربةِ لمعرفتِه.

وهناكَ أيضًا ما قدَّمَه الشيخُ الرئيسُ ابنُ سينا، الذي قالَ في كتابِه (التعليقات) في الصفحة الثالثة بعدَ العشرةِ: "فواجبُ الوجودِ لو كانَ علمُه زمانيًّا، كانَ علمُه متغيرًا، فإنه كما أن هذا الشيءَ غيرُ موجودٍ الآنَ ويصيرُ موجودًا غدًا. كذلك العلمُ به إما أن يعلمَه كذلك فيكون متغيرًا، وإما أن يكونَ علمُه غدًا كعلمِه في هذا اليومِ فلا يكونُ علمًا، فإنه يكونُ محالًا أن يكونَ علمُه غدًا كعلمِه في هذا اليومِ، بل قد تغيَّرَ". وبذلك نرى أن علمَ اللهِ ليسَ زمانيًّا ولا يتعاملُ معَ الزمانِ.
ملخصُ الإجابةِ: عن أيِّ زمانٍ تتحدثُ؟! وما هو الزمانُ أصلًا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.