شعار قسم مدونات

من الابنة العاقة إلى فلسطين

مدونات، فلسطين

أكتب كلماتي هذه وأنا لا أعلم ماذا سيكون مصيرها وكيف ستكون ردود الأفعال اتجاهها، لكنني على أية حال سأكتبها وألفظ الحقيقة لأواجه نفسي بها، فما تراه العين يؤمن به العقل، فماذا إن كُتِب؟ هذه رسالة مُرسِلتها… الابنة العاقة والمرسل إليه.. فلسطين. 

فلسطين يا وطن لم أعرف له رائحة غير تلك التي أذكرها من كراكيب ذاكرة طفلة لم تتجاوز الثلاث سنوات من عُمرها، رائحة الخشب الذي استعمله البناؤون لإعمار منزلنا الذي لم تطأه قدماي منذ أن اكتمل كيانه، كلما شممت ما يقارب تلك الرائحة هنا في غربتي أعيش ذكريات مُشوشة وغير واضحة.

فلسطين… أذكر بيت العائلة في مخيم النصيرات، أذكر السطح وأقفاص الدواجن التي كانت تعتني بها جدتي، أذكر أنني لعبت على هذا السطح أيضا، كان موقعا للاختباء عندما نلعب الغميضة، ومكانا للاحتفال عندما نتقمص شخصية العروس وأخواتها، أذكر إفطار العائلة الجماعي، جميعنا في مكان واحد وحول مائدة واحدة، أذكر جدتي وهي تطعمني بيدها وتسقيني كأس الشاي بنكهة الحليب، ذكريات مُدعمة بأقوال وذكريات إخوتي ليزول عنها الضباب، لكنها تبقى ذكرى جميلة أستعيدها كلما سمعت من حولي يتحدثون عن أوطانهم.

فلسطين… أذكر أنني زرت بحرك في غزة، أغمض عيناي فأرى سماء صافية الزرقة وغيوم بيضاء ناعمة المظهر، تنير الصورة أشعة الشمس الجريئة، أرى وجه أمي وأبي ورجل أبيض الوجه يرتدي ثوبا تراثيا تقليديا يحمل على كتفه ما سُكب منه لكل منا أنا وإخوتي الخروب في أكواب معدنية، كان لما يحمله على كتفه أجراسا تتراقص مع نسمة الهواء لتعزف سيمفونية من الذاكرة مع صوت أمواج البحر الهائجة، أرى كل شيء عدا البحر يا فلسطين… لكنني سأقبل هذه المساومة أمام اللاشيء، أحاول أن أطمئن نفسي أنني حقا عشت تلك اللحظة على أرضك وأنها ليست نسج من خيالي أو حتى (تشابه ذكريات) من عام ومكان آخر.
 

لم يكن انفصالي ذاك عن فلسطين خزيا أو عارا، بل كُلي فخر أنني ابنة أرض المقاومين والشهداء، وبت أكثر ثقة بهذا الفخر من أي وقت مضى، لكن المعنى الفلسفي للوطن أصابني بالهلاوس والخيالات الخادعة

فلسطين الحبيبة، مع السنوات مازال قلبي يبكي على وجعك ولكنني كنت شيئا فشيئا أخسر القليل من ارتباطي بك كوطن لتبقي قضية نناضل من أجلها كمسلمين فقط، لا أعلم ماذا أصابني، لكن كان جزء من هذا الانفصال العاق يعود لإيماني أننا مسلمون أولا وهذا هو المهم، وأن الجنسيات واللكنات لا تشكل فارقا هاما، دفعني هذا لأن أخدع نفسي قائلة أن فلسطين هي قضية مسلمة عربية إنسانية نناضل من أجلها فقط، وكففت عن التفكير بمعناها وكيانها كوطن.

لم يكن انفصالي ذاك خزيا أو عارا، بل كُلي فخر أنني ابنة أرض المقاومين والشهداء، وبت أكثر ثقة بهذا الفخر من أي وقت مضى، لكن المعنى الفلسفي للوطن أصابني بالهلاوس والخيالات الخادعة، فالوطن هو الأرض التي ولد فيها الإنسان وله ارتباط بها، وأنا كمغتربة عن وطنها منذ ولادتها لا تحمل منه إلا القليل القليل من الذكريات، بت أضيع بين تساؤولاتي عن وطني فلسطين؟ أهو حقا وطني؟ وإذا كان هو وطني، فلأي سبب هو كذلك؟ هنا وقعت في العقوق وأصبحت فلسطين قضيتي فقط وليست وطنا. 

إلى أن عدت إلى رشدي في اللحظة التي استرجعت فيها حزن الرسول – عليه الصلاة والسلام – لمغادرته مكة المكرمة، رغم أنه بنى حضارة بأكملها في المدينة المنورة ووجد فيها الكثير، إلا أنه لم يفقد حبه المطلق لمكة المكرمة، فإن وجدتُ الحياة والسعادة في أرض أخرى حبيبة لقلبي، فهذا لا ينفي الأصل والعلاقة الأبدية الوجود بيني وبينك كوطن يا فلسطين، تلك العلاقة الفريدة التي أرويها في كل نفس تأخذه وتلفظه رئتاي، وكما يقول ابنك محمود درويش ( الوطن ليس سؤالا تجيب عنه وتمشي إنه حياتك وقضيتك معا )، كيف لا وأنت تظهرين لي في كل مرة أنظر في المرآة، في كل مرة يُقال لي فيها أنني فلسطينية قبل إجابتي سؤالهم حتى، فأنت في ملامحي وفي صوتي، يجدك الجميع في نطقي للأحرف والكلمات، أسمع اسمك فألتفت نحو صداه لا إراديا.
 

بت أؤمن أن الوطن لا يقتصر على مفهوم الأرض التي ولدت فيها وترعرعت، بل قد تكون الأرض وطنا عندما تحملها كقضية في فؤادك، تكون وطنا عندما يميل قلبك للرغبة بأن تمشي حافي القدمين على أرضها، وأن تصنع لك ذكريات في طُرقاته

عُدت إلى رشدي وأنا أحمل في قلبي رغبة الاستماع إلى أمواج بحر يافا مغمضة العينين، وأخذ جولة طويلة في طرقات القدس القديمة، أن أقضي أياما في عكا وكأن الزمن لا نهاية له، أن أجد طريقي نحو شمالك وجنوبك وشرقك وغربك يا فلسطين، أن أستمع لصوت العصافير المهاجرة في سماء الرملة، وأن أصلي في مسجد قبة الصخرة صلوات يومي، أن أزور وأعانق أحبائي في رام الله ونابلس وطولكرم، أحتسي كأس شاي تحت ظل شجرة زيتون وكأس شاي آخر تحت ظل شجرة ليمون، أن يكون إفطاري من كعك القدس وعشائي كنافة نابلسية يزغرد القطر أعلاها، أريد أن أترك خطواتي على أرضك حتى تتذكريني، لا أريد أن أنساك وأرجو أن تسامحيني.

بت أؤمن أن الوطن لا يقتصر على مفهوم الأرض التي ولدت فيها وترعرعت، بل قد تكون الأرض وطنا عندما تحملها كقضية في فؤادك، تكون وطنا عندما يميل قلبك للرغبة بأن تمشي حافي القدمين على أرضها، وأن تصنع لك ذكريات في طُرقاته عند غروب الشمس وشروقها، أن يحن قلبك لرائحته وهوائه حتى وإن لم تلتقيا عن قرب، عندما تحمله حُبًا وهمًا.  أحببت بلدي الإمارات هنا وأنا أعدها كوطن لي وليست أرض غُربة، تعلمت فيها أن أحب الأرض وأهلها، علمتني أن أحبك حتى وإن لم ألتقيك، وأن أحافظ على حبك في الفؤاد حتى لقاء العاشق للمعشوقة. 

اعذري عقوقي الطائش يا فلسطين وتذكري (على عهدي على ديني على أرضى تلاقيني أنا لأهلي أنا أفديهم أنا دمي فلسطيني.. فلسطيني). 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.