شعار قسم مدونات

لجوء عاطفي

blogs- الحنين

ذاتَ مَساءٍ بينما أنا أُقلِّبُ مقلتيَّ المتعبتين في سماءِ مدينة قونيا المُلبدةِ بالغيومِ تارةً، وتارة أخرى أديرهما نحو تلك المئذنة العتيقة المنتصبة هناك، تذكرت أن للغريب مقالة تبقى مؤجلة دائما مالم تلفظ الغربة آخر أنفاسها في روحهِ النائيةِ الشرودِ، ويُطلُّ من شرفة الأمل على مستقبلٍ لم يقَرِّبهُ الليل منه إلا بما أبعده عنه النهار.

هكذا خلال هدأةِ نبضٍ، وسكونِ أعصاب، كتب الغريب على صفحة من كتاب المشاهد المبعثرة في ذاكرته المنهكة هذه الأبيات:

يا بلادَ المآذنِ انتشليني واحضنيني أنختُ فيكِ شراعي

ها أنا مُشرعُ لديكِ فؤادي غيري إنْ أردتِ كلَّ طباعي

وامنحيني من الهدوء ثوانِ لَسْنَ يأتينَ معْ دواءِ صُداعِ
ملَّ من طولِ ما ترحل رحلي فلتكوني نهايةً لصراعي
ما بعينيَّ منْ جديدِ دموعٍ سوفَ تبكيهِ في جديدِ وداعِ


كل اللقطات به تذكرني أن المسافة وحدها ليست هي ما يحول بيني وبين وطن حملته في سحنة وجهي كبرياء، وخاطبت به الناس من خلال ثمالةِ عفةِ تعاورتها كل المغريات، ولازالت تترنح في مفازات الأسفار سَيْر حادي العيس نحو مدائن الملح التي توارت تقاسيمها خلف أفق شاحب.

أجهدني المسير، وأثخنني الرحيل، ومشاهد الأزمات تتكرر في مخيلتي كصدي الأوجاع، ولليل أشجار نمت في خواطري شوكا من نحاس، وعلى أسنمة الخطوب حملت قلبي المنتشي براح الخيبات:

إنني مجهدُ .. وأشعرُ بالبردِ وفكري مُلغّمُ بالنِّزاعِ
وبعينيَّ كل مشهدِ رعبٍ عاينتهُ على سبيل الضياعِ
فوجوه بلا شفاهٍ تغني صوتها للجمال في الكون ناعِ
ووعودٍ على أديم دماءٍ نصبوها مشانقاً لجياعِ
آهِ هلْ لي إلى رضاكِ سبيلٌ بعد ما بعتُ في رضاك قناعِ
وتبرجتُ في غرامكِ حتى صرتِ كفِّي ومعصمي وذراعي
لم أُناجيكِ كنتُ قبلُ خجولاً أكتم الحب في ثنايا اليراعِ


لقد أوغل هذا المساء في سكب الحنين، ولقد أُثقلت تفاصيله بالهموم، كل اللقطات به تذكرني أن المسافة وحدها ليست هي ما يحول بيني وبين وطن حملته في سحنة وجهي كبرياء، وخاطبت به الناس من خلال ثمالةِ عفةِ تعاورتها كل المغريات، ولازالت تترنح في مفازات الأسفار سَيْر حادي العيس نحو مدائن الملح التي توارت تقاسيمها خلف أفق شاحب.


إن هجوم كتائب الظلام على جنبات هذا المساء، واقتحام أسراب البرد أسواره المخملية، واستسلامهِ اللا مشروط تحت صوارمِ ليلٍ جحافلُ خيلهِ تقلق تناغم المغيب المهيب، الذي يزف روح هذا اليوم ويعرج بها نحو وادي الغيوب، هذا المشهد جعل الغريب يستدعى مقارنة خيالية بين واقع هذا المساء، وواقع أمة غربت شمسها في دهليز رمادي ينتهي بفوهة ثقب أسود في مجموع أكوان، لا تتشابه إلا في صياغة قوانينها السائدة التي تدوس الضعيف، وليس للحق فيها رأيُ.


في هذه المقارنة ربما يُلتمس للغريب بعض العذر حين يسأل قائلا:

أما آنَ للخيلِ أنْ تستعيدَ الصهيلاَ
لنَا من تضاريسِ وجهِ الشقاءِ بلادُ..
منَ الأطلسيِّ
لِموجِ الخليجِ
تَوَغلُ عرضاً وتمتدُ طولاَ
نمتْ في رؤانا أظافرُ حقدِ وغاباتُ حزنِ
وصوتُ الحناجر.. كل الحناجرِ أمسى عويلاَ
أما آنَ أن نمتطي صافناتِ من العزمِ
نستلُ من مغمداتِ الجحيمِ سيوفا
ونغزوا..
هيَ الحربُ.. إن الحروب لظلِّ السلامِ سبيلا
أما آنَ أن نُثخنَ الخوفَ فينا
ونردي الخنوعَ قتيلاَ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.