شعار قسم مدونات

علم نفس التدين (5).. هل يمرض المجتمع نفسيا؟

blogs - مرض نفسي
في جلسة لمجموعة من الأطباء النفسيين جرى الحديث حول أحوال المجتمع وما به من ظواهر، علَّق أحد أساتذة الطب النفسي ساخرا بأنه يبدو أننا سنلغي باب اضطرابات الشخصية من منهج الطب النفسي لأنه على ما يبدو أن اضطراب الشخصية أصبح هو الطبيعي في المجتمع المصري.. ومنذ أيام كتب أحد الشباب النابهين منشوراً على "الفيسبوك" يعلن فيه أن الأولوية في الوقت الحالي هي علاج المجتمع نفسيا نتيجة لما أصابه من تشوهات نفسية في السنوات الأخيرة، وأن أي حديث عن الوعي والمعرفة في مثل هذا المجتمع سينتج عنه وحوشٌ ومسوخٌ بشرية.

 

ترددت هاتان الواقعتان في رأسي في الفترة الأخيرة حيث بات السؤال: هل تمرض المجتمعات نفسيا؟ كنا نتحدث دائما عن أمراض نفسية تصيب أفراد المجتمع، ولكن هل وصل بنا الحال فعلا للحديث عن مجتمع مريض؟ من هو المجتمع المريض؟.. فكانت هذه المقاربة لمحاولة رصد هذا الأمر للتعامل معه، فقمت باستعراض الأمراض النفسية وإنزالها على المجتمع في تعامله مع قضاياه العامة وأحواله القومية إن صح التعبير فرصدت ما يلي:

 

تكاد أعراض الاكتئاب التي رصدتها إحدى الدراسات في ٨٠٪من الشعب المصري تتحول إلى حالة مرضية عامة ليجتمع مع إحساس العظمة رغبة شديدة في جلد الذات وإهانتها والحط منها في تناقض مرضي عجيب.. إنه الاكتئاب القومي.

1- أن مجتمعنا المصري في تعامله مع المجتمعات الأخرى يعاني من مجموعة من الضلالات، فهناك ضلالة الاضطهاد، فالعالم كله يتآمر علينا ويريد إضعافنا بدءاً من أميركا ومرورا بأوروبا وانتهاءً بتركيا وقطر، وأخيراً السودان، وحتى تكتمل منظومة "البارانويا" والارتياب، فعندما تسأل: لماذا يضطهدوننا؟ تبرز ضلالات العظمة عن مصر أم الدنيا والطفل المصري الأذكى في العالم وجيشنا حجر العثرة الذي تتكسر عليه أطماع الغزاة الفاتحين..

 

حتى نصل إلى أننا أسرنا قائد الأسطول السادس الأميركي، وأننا اخترعنا دواءً لعلاج الإيدز، وأن طلاب المدارس يسجلون يوميا براءات اختراع يحاول العالم الحصول عليها.. مع حالة من إنكار الواقع وعدم التعامل معه والعزلة الشعورية والنفسية التي تجعلنا مصدقين لهذه المنظومة الغريبة من الضلالات، بل ونستخدمها ليل نهار في تبرير ما يجري حولنا.. أليس هذا فصام مجتمعي؟ أليست هذه أعراض ذهان جمعي؟

 

2- ثم هو نفس المجتمع الذي يسري فيه الإحباط كالهواء الذي نتنفسه، ونظرة في وجوه الناس في الصباح وهم يتوجهون إلى أعمالهم، أو مشاهدتهم وهم يتعاملون مع بعضهم، أو رد فعلهم صغارا وكبارا إذا أعلن أي يوم أنه اجازة وعلم الطلاب أنهم لن يذهبوا إلى مدارسهم، وأن الموظفين لن يتوجهوا إلى أعمالهم.. تشعر بأن الناس آلات بلا روح..

 

فلا رغبة في عمل شيء ولا شغف في البدء بعمل شيء ولا إبداع مع حالة من التكاسل العام والبطء المتعمد التي توحي إليك أنك تشاهد فيلما بالحركة البطيئة مع عصبية وعدوانية تنفجر مع أقل احتكاك، فالكل "اللّي فيه مكفّيه".. لا أحد يستمتع بحياته والضحكات ميتة أو باهتة تكاد أعراض الاكتئاب التي رصدتها إحدى الدراسات في ٨٠٪من الشعب المصري تتحول إلى حالة مرضية عامة ليجتمع مع إحساس العظمة رغبة شديدة في جلد الذات وإهانتها والحط منها في تناقض مرضي عجيب.. إنه الاكتئاب القومي.

 

3- ثم هو المجتمع الذي لا يحترم أي قانون ولا يلتزم بأي نظام، بل يستمتع بسن القوانين لكي يكسرها ويتلاعب بها، فنحن أصحاب أكبر ترسانة قوانين في العالم، ومع ذلك فنحن المجتمع الذي يتظاهر باحترام النظام ليمزقه عند أول فرصة، فالجميع يتحدث عن الأخلاق وتتزايد مظاهر التدين، والكل يشكو من سوء المعاملات، فلا تكاد تجد من يلتزم في معاملاته التجارية أو المهنية أو الحرفية..

 

وأصبح الغش شطارة ومهارة لتغيب قيم الشهامة والمروءة والرجولة وتحلَّ محلّها النذالة والحقارة مع غياب ظواهر الود والتعاون الاجتماعي والرحمة والرفق وقيم التغافل والتغافر لتسود حالة من التوحش وعدم الشعور بالأمان والتوجس لتصبح مقولة أن الشعب المصري طيّب العشرة أو أنه متدين بطبعه. مقولات تثير السخرية والأسى بين أبناء الشعب بعد أن كانت تثير إعجابهم وحماسهم وفخرهم.. إنها اعراض الاضطراب الشديد في شخصية المجتمع في صورة أقرب للشخصية السيكوباتية.

 

4- وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فهناك ظواهر مرضية اجتماعية ونفسية يعاني منها المجتمع وتستنزف المجتمع بشكل خطير، ومنها:

 

علاج المجتمعات أصعب من علاج الأفراد وأكثر تعقيدا لأن علاج الأفراد يحتاج إلى الطبيب النفسي ولكن علاج المجتمع يحتاج أن ينهض كل المجتمع لعلاج نفسه.

أ- أننا مجتمع نهتم بالظاهر والشكل على حساب الجوهر والمضمون حتى اختل حكمنا على الأمور، لأننا أصبحنا لا نقيم وفق معايير ثابتة حقيقية، ولكن وفق استيفاء مظاهر الشكل، فطالما استوفيت الأوراق أو المظاهر فلا يهم بعد ذلك أي شيء حتى أصبحت حياتنا أشباه أشياء في كل المجالات فلدينا شبه تعليم وشبه ثقافة وشبه علاقات اجتماعية وشبه منظومة صحية وشبه رياضة ليصبح في الحقيقة مجتمعنا شبه مجتمع.

 

ب- أننا لا نتعامل بعمق وصدق مع الأمور، ولا نريد أن نعالج مشاكلنا بشكل حقيقي بدءاً من مشاكلنا الاجتماعية في الزواج والطلاق والصداقة والزمالة والحب.. كل هذه المنظومات تحتاج إلى مراجعة شاملة ونعاني من تفاصيلها، ولكن لا يجرؤ أحد على الاقتراب الحقيقي وإزالة ركام من الموروثات، فعلى سبيل المثال في الزواج نكتفي بالحديث عن فشله والتعاسة فيه، ولا أحد يتساءل كيف نتزوج أو لماذا نتزوج؟ ليستمر الزواج بنفس طريقته البائسة، فنتزوج مثلما يتزوج الناس ونتزوج تشبُّهاً ببنت خالتنا، ونتزوج لننجب أطفالا لا نعلم شيئا عن كيفية تربيتهم أو حتى لماذا أنجبناهم وماذا نريد منهم وماهي واجباتنا نحوهم.

 

ج- ندمن التظاهر الاستعراضي الهستيري في أفراحنا وفي أحزاننا حتى في تعليمنا لأولادنا، حتى أضحى التباهي بالتعليم الأميركي أو الإنجليزي أو المدارس ذات المصاريف الضخمة جزءاً من استعراض العضلات في تعويضٍ شديد لإحساس بالنقص يتخيل المجتمع أنه يعوضه من خلال مظاهر كاذبة خاوية بائسة لأنها تخفي وراءها هشاشة نفسية مرعبة.

 

إن العشوائية النفسية والاجتماعية وحالات التناقض بين الفعل والقول هي علامات لمرض نفسي شديد للمجتمع عندما نرصدها في الأفراد فإننا نتوقف ونبادر بالعلاج فإن الحقيقة أنها في المجتمع أولى وأهم، لأن علاج المجتمعات أصعب من علاج الأفراد وأكثر تعقيدا لأن علاج الأفراد يحتاج إلى الطبيب النفسي ولكن علاج المجتمع يحتاج أن ينهض كل المجتمع لعلاج نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.