شعار قسم مدونات

صندوق الذكريات الأليم

blogs رابعة

كثيرة هي الذكريات التي تعبث بعقلي وتشتت فكري في هذه اللحظات الحاسمة في حياتي؛ إلا أن الذكريات المؤلمة تأبي أن تمر مرور الكرام فيحلوا لها أن تعذبني. ذكري من بعد ذكري تهوي بمعاول قاسية على عقلي الذي لم يعد يحتمل كل تلك الهموم التي تعتصره دون رحمة أو شفقة. جلست منفردا على شاطئ ذكرياتي أبحث عن بقايا إنسان داخل هذا الجسد المنهك بعد سنوات من الحصار… نعم الحصار فالجميع أقسم على إفنائه والقضاء عليه.. فقط لأنه يشعر ويفكر.

هناك حيث نشأت كان التسلط هو العنوان الأساسي؛ القبلية والجهوية والأفكار البائدة تسيطر على عقول الناس فتكبل حركتهم وتؤطرهم في إطار ثابت يأباه أي عقل حر. في المدرسة كانت الرهبة من المعلم هي سبيل التعلم وإلا فالعصا لمن عصا. الكبير يسعي لقمع الصغير بعكس ما كنا نتعلم من عطف الكبير علي الصغير. العلم والدين كانا للدراسة ولخطب المسجد والوعظ ولكنها لم تكن للتطبيق. قليلون جدا هم من تركوا أثرا في حياتي وهناك قمم شاهقة أسرتني انهارت فيما بعد عند أول اختبار.

أستاذي الذي تعلقت به فرح في الدماء التي سالت في رابعة العدوية؛ سقط من نظري. شيخي لم يحدد موقفه فلحق بأستاذي في الهاوية السحيقة. مواقف لم تكن تحتاج لمجرد التفكير أفرزت أسوء ما في البشر. كانت الصدمات تتوالى ومع تصاعد الكارثة التي حاقت بالبلاد كان الفرز أشد عنفا وأكثر قسوة. قليلون هم من حافظوا على مبادئهم واحترموا أفكارهم. آخرون كانوا معي في الطريق فجأة فقدوا البوصلة ووقفت بهم راحلتهم لعل صندوقهم قد تحطم.
 

اجترار هذه الذكريات لن يفيد الآن. ولكن كيف أطردها وهي ماثلة بأشخاصها أمام عيني تتقافز أمامي تخبرني بأنه خلف كل حال هناك أحوال أخرى ووراء كل وجه وجوه أخرى وتخبرني ألا تتعجل على الحكم علي الناس

كيانات وأفكار ومبادئ انهارت كجبل جليد ضربته شمس حارقة. سال الدم ببساطة وقتلت الحرية بسهولة ووأدت الأفكار بسلاسة. جيش بلادي تلك القمة السامقة كنا نتسابق في كتابة الأبحاث والمقالات منذ صغرنا تمجيدا له وللبطولات العظيمة. كنا نحتفل بيوم نصره ونفرح بأفلام تجسد انتصاراته سقط في الوحل وانغرس في مزبلة الجشع والطمع والخيانة.

الكاتب والأديب الذي كنت أنتظر إصداراته وأعيش مع أبطال رواياته خان أفكاره وباع مبادئه علي أول رصيف. الإعلامي القدير الذي كنت أنتظر صواعقه الحمراء التي لا تقف عند أي مسئول كان مجرد أفيش في فيلم سينمائي قديم مبتذل. لاعب الكرة الساحر الذي طالما أبهرني كان مجرد فقاعة انفجرت دون صوت. الفئة الوحيدة التي حافظت على مبادئها وأفكارها في هذا الصندوق اللعين هن الراقصات.

اجترار هذه الذكريات لن يفيد الآن. ولكن كيف أطردها وهي ماثلة بأشخاصها أمام عيني تتقافز أمامي تخبرني بأنه خلف كل حال هناك أحوال أخرى ووراء كل وجه وجوه أخرى وتخبرني ألا تتعجل على الحكم علي الناس. هذه الذكريات تعصف بكياني لأفيق على دروس لم أكن لأتعلمها في أفضل الجامعات. إنها خبرة الحياة والتجربة والتعلم من الخطأ الذي داخل كياني في غفلة من الزمن.

تالله لأحطمن هذا الصندوق بما فيه من ذكريات أليمة..؛ صرخ الصندوق .. لا لا.. توقف ..!!  وماذا إذا وقعت في هذه المواقف مرة أخري من ينبهك؟! من يحذرك؟! هل حياتك الآن مستقرة؟! هل انتهت كل مشاكلك ووصلت لمرحلة اليقين؟! ماذا دهاك؟! وقعت في حيرة وهل بعد كل هذا الألم هناك ألم آخر.. ألم ننتهي.. أهناك جديد؟! قال الصندوق بهدوء انتظر وستري فدوام الحال من المحال في هذه الدنيا الغبية الغرورة. قليلون يا فتى هم من استطاعوا الوصول لمرحلة اليقين وارتاحوا وأنت ستصل إليها إن لم يكن برضاك فيها ففي قبرك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.