شعار قسم مدونات

شقاء الذاكرة

blogs- الذاكرة
كباحثٍ عن آثار أقدام وسط نهر جارف، وراء السّراب تختفي سنوات العمر كأنها لم تكن سوى لحظة من نهار، أنظر إلى أمسٍ قد يبدو لي بعيدا، وتأبى ذاكرتي إلا أن تتذكره، ما أعظم النسيان وما أشقى من يعيش بذاكرة لا تشيخ، تجرّه مُكرها إلى ماضٍ تمنى لو تعامل معه بمنطق اليوم الذي كذّب كل حقيقة؛ ولم يرى فيما مضى سوى أرقام عمرٍ تخللته النكسات.

أحقا كنت ذاك المعتوه؟ أحقا أنا من قام بكذا وكذا، آهٍ آه لِما يا ذاكرتي تعصي أمري، أما عاهدتني على النسيان أم أنك في صف من خانوا العهود.؟

أحلم بغد مشرق يمحو ظلمات ذاكرتي، يسمو بها ويرفع عني آهات التفكير في واقعي، حيث أمسي يشبه يومي وهما معا يشبهان حد التطابق غدي، فلا جديد في العمر سوى أرقامه المتغيرة.

نلوم أنفسنا وقد استحكم سلطانها علينا وتجبر هواها فصرنا له كالعبيد، أذلة، خنعا لشهواتها حتى إذا صرنا إلى نفس ما كان من الخطأ عدنا نلومها ونقول لها أما يا نفس تستحي وقد كان نفس ما كان فلما لا تعتبري؟! حقا.. هكذا يكون الغباء حين يتكرر نفس الفعل بنفس الطريقة ولا نتوقع نفس النتيجة.


سنوات العمر تتزايد، ويتزايد معها اقتراف الأخطاء، لا نتعظ ولا نتنسك، ولا نلتزم، رغم عاديات الزمن وتباريحه، ودروسه، وعظاته التي لا تنقضي، ففي كل يوم درس جديد لمن يعتبر، أو كان له لب أو عقل، كل لحظة من لحظات العمر تصطحب معها، آيات وعبر، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الذكريات تموج في ذهني ويتشبث الماضي بفكري فلا يريد أن يبرح مخيلتي، أشاهده كما أنه يُبعث أمامي، كأنه فصول قصة تعالى عليها الغبار فما لبث أن استقر على صفحاتها حتى أتت عليه الريح تعريه وتقلب صفحاته أمام عيني كأنه ذكريات أمس، فيعيد معه وقفات من طفولتي، أشواقا من أيام شبابي وحسرة من آمالي و تطلعاتي المنثورة كحبات رمل اشتدت عليها العواصف.

أرى اليوم أمس آخر في ثوب جديد، لكنه لا يحمل أي جديد، أرى حرمان الطفولة في وجوه صغار اليوم، كما كانت بالأمس، فلا دراسة تحسنت ولا ظروف تغيرت، لم يتطور إلا أشكال صناعة الغباء صناعة جيل بلا علم، بلا هوية، بلا أخلاق وبلا مستقبل.. ينمو ويُسيّرُ كالقطيع.

أعيش اليوم أمسا آخر، حيث النكبات والنكسات لا زالت هي هي، والأماني والتطلعات هي هي، أحلام بوطن يجسد معاني الكلمة، يُشعِرنا بالانتماء وأننا فوق بقعة أرض ليس لها مثيل.. لكن ذاكرتي تأبى النسيان وتعيد لي دروس تاريخ مقصية في مقرراتهم التجهيلية، تذكرني بجثث الحالمين و صرخات الطامعين في الحرية واستغاثات المعذبين المطالبين بالمساواة .

ننظر كلنا إلى الماضي باعتباره خائنا و نرجو من اليوم و الغد أن يكون الوفاء عنوانا لهما، أي سذاجة نحن فيها، أما نستحي من هكذا أمنيات؟ هل ترجو الغنم أمنا وسط الذئاب؟ آه، أما تعلمنا من ذكريات الأيام أن بين القنافد لا يوجد أملس؟ أنا حالم بغد مشرق يمحو ظلمات ذاكرتي، يسمو بها ويرفع عني آهات التفكير في واقعي، حيث أمسي يشبه يومي وهما معا يشبهان حد التطابق غدي، فلا جديد في العمر سوى أرقامه المتغيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.