شعار قسم مدونات

جدِّدْ حياتَك

blogs التغيير

قِيل أنّ اثنيْن لا يتغيَّران؛ الموْتى والحمْقى، والواقع أنّه لا حياة بدون تغيير ولا استثناء في ذلك لأحمق أو ميت؛ فالزمن يتغيّر والمكان يتبدّل والعِلم يتطوّر والكون كلّه بذراته الدقيقة ومجرَّاته العظيمة في حالة تغيُّر دائب، كما أنّ أعمارنا تتغيّر وخلايانا تتجدّد ومشاعرنا وأفكارنا وسلوكيّاتنا لا تشذّ عن ذلك النهج التغييري الذي هو حتميّة كوْنيّة وضرورة اجتماعيّة وبدهيّة عقليّة، وقد جُبِل الإنسان على هذا المبدأ الذي لا ينضب بحرُه ولا ترسو سفنُه إلا مع نفخة الصور وانفضاض سوق الحياة، وكان مَن لا يركب هذا السفين ويَمتطي أمواجَه، أميرا على مؤخّرة الرّكْب وحاديا في ذيل القافلة وحِمارا للرَّحى، حتى لَيَعلوه الصدأ ويَكسوه الكلس ويَركله الزمن، ويبدو كأشجارٍ يابسة يتأفّف منها الناظرون وأحجارٍ مُهشَّمةٍ مُهمَّشَةٍ لا يُعْبَأ بها ولا يُأْبَه لها.

والتغيير هو الانتقال من حالةٍ غيْر مَرْضيّ عنها إلى حالة أخرى خيْر منها، وفي هذا كان الأنبياء والرُّسُل هم الأئمّةً على مدى تاريخ البشريّة جمعاء، وكان على رأس كلّ قرْن مَن يجدِّد الله على يديه الدِّين، فيَجلو الرّان ويُزيح الغبَش دون المساس بالقطْعيّات المتمثِّلة في العقيدة والشريعة والعبادات والأركان الخُلُقية الثابتة، وهو ما بدأه(عمر بن عبد العزيز)مجدِّد المائة الأولى وتلاه(الشافعيّ)مجدِّد المائة الثانية وتبعه جمْع غفير مِن العلماء الربَّانيين الذين كانوا مآذن مِن بشَر وقرآنا يَمشي على الأرض؛ إذْ انتصروا للسنّة واقتصّوا مِن البدعة وكانوا عظماء بحقّ بعد امتداد نفعهم وتأثيرهم خارج حدود الزمان والمكان، وهو ما اجتهَد في إحصائهم(عبد المتعال الصعيدي)و(أمين الخولي)في كتابيْهما عن المُجدِّدِين في الإسلام.
 

إنَّ أولويّة إصلاح النفس قبل الغيْر لا يَندرِج تحت الأنانية ولا يُخالطه شبهة النرجسيّة، بل كان ذلك كذلك لأنَّ النفسَ هي العنوان الأبْرز لهويّتنا وشخصيّتنا، وهي أقْرب الأقْربِين وأَوْلى النّاس بمعروف التغيير

ولأنَّ ضربةَ البداية هي حجَر الزاوية في كل نجاح و المُنطلَق لكلِّ تغيير رشيد، فقد دلَّنا الحكيمُ القدير على طرَف الخيْط ووضع أيدينا على منْبت الدّاء فقال-سبحانه- في سورة الأنفال: "ذلك بأنَّ اللهَ لم يكُ مُغيِّرا نعمةً أنعمها على قوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم"، وزادها(ابن عطاء الله السكندري)إيضاحا في حكمته الثانية والثلاثين حين قال: "تَشوّفك إلى ما بَطَن فيك مِن العيوب، خيْرٌ مِن تَشوّفك إلى ما حُجِب عنك مِن الغيوب"، وجَسّدته كذلك قصّة الملِك الذي قام برحلة بريّة طويلة في مملكته الواسعة، ولمَّا عاد ووجد قدميه قد تورَّمتا مِن طول المشْي، أمر بتغطية كل شوارع المملكة بالجلد، ولكنّ أحد مستشاريه الحكماء أشار بصناعة حذاء جلدي لقدمي الملك فقط، في دلالة على أن تغيير النفس يحتلّ الأولويّة الأُولى، وأنَّ زمَن المعجزات قد ولّى فلم يَعُد للسِّحر بلّورة ولا لعلاء الدين مصباح ولا للتغيير مطَر يَتحدّر مِن المُزن الثِّقال، وهو ما عناه الشيخ(محمد الغزالي)في كتابه الذي استقيْت عنوان المقالة من عنوانه(جدِّد حياتك)حين قال: "لا تُعلِّق بناء حياتك على أمْنية يَلدها الغيْب، لأنَّ هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير؛ فالحاضر الماثل بين يديْك ونفسك التي بين جنبيْك والظروف التي تلتف حواليْك؛ هي وحدها دعائم مستقبلك".

على أنَّ أولويّة إصلاح النفس قبل الغيْر لا يَندرِج تحت الأنانية ولا يُخالطه شبهة النرجسيّة، بل كان ذلك كذلك لأنَّ النفسَ هي العنوان الأبْرز لهويّتنا وشخصيّتنا، وهي أقْرب الأقْربِين وأَوْلى النّاس بمعروف التغيير، وهي أثمن الأمانات التي وُكِّلنا بحفظها وبرِّها "أتأمرون النّاس بالبِرّ وتنسوْن أنفسَكم"، وهي المخلوق عظيم القدْر الذي أقسم الله به "ونفْسٍ وما سَوّاها" وحثَّ على تزكيته والعناية القصوى به "عليكُم أنفسَكم"، وهي الباب المُشرَع على الحَقّ والمِرآة التي نرى فيها الآيات "سَنرِيهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسِهم"، وهي مَن تُساءَل وتُحاسَب "كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة"، ولأنّها في مضمار الحياة هي الفاعل والمفعول واللاعب والميدان والبذرة والثمَرة.

علاوة على أنها تُمثّل البنية التحتيّة لهذا العالَم، وتُعبِّر عن الكُلّ المُركَّب مِن الجينات والمَعارِف (النقلية منها والعقلية) والتجارب والبيئة، وتُهيِّء المَدخَل الذي ندلف منه إلى تغيير الخارج والأخْذ بيد الآخَر؛ على اعتبار أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وأنَّ كلَّ إناء ينضح بما فيه…أضِف إلى ذلك أنَّ هذا النهْج (أي إصلاح الداخل أولا) هو ما اتفق عليه العقلُ والنقْل، ووَصَّى به السلَف قبل الخلَف، وتَمحْوَر حوله التنْمَوِيُّون والمُصلِحون، وقال فيه الشاعر:

"ابْدأ بنفسِك فانْهها عن غَيِّها … فإذا انْتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ"

ولهذا كلّه-وأكثر-يَتحتَّم علينا ممارسة الاستبطان الذاتي؛ الذي يَهدف إلى قراءة النفس ومعرفتها قبل الهمّ بتغييرها وتزكيتها، ويروم سبْر أغوار ماهيتها(مَن أنا؟)وعجْم عُود وظيفتها(لِمَ أنا؟)قبل الإقدام على تجديد ما تَهدَّم فيها وترميم ما بلِي منها؛ إذْ إنَّ الله-على حدّ قول البعض-قد صنع لكلِّ إنسان قالبا خلَقه فيه ثمّ كسره، فكان في الناس مَن غاصتْ نفسُه في الوحل وصارت أمّارة بالسوء و مَن اهتدَتْ وباتت مطمئنة ومَن تَأرجَحَت بين هذه وتلك وكانت لوّامة، وكان مِنها مَن لم تخلُ كنانتُها مِن نقاط ضعف وجَب تقويتها ومراكز قوّة يحسن استنفارها واستثمارها وملكات وقُدرات ينبغي تنميتها وأفكار ومشاعر سلبية حان وقت مزايلتها وطلاقها، وكان مِنها مَن اكتسَتْ واصطبغَتْ بأحد الأنماط الثلاثة التي تعارَف عليها خبراء التطوير الذاتي فكانت سمْعيّةً تارة وبصريّةً تارة وحسيّةً تارة أخرى، وهو ما يُؤخذ كلّه في الحسبان والتقدير عند رسم خطة التغيير وخوض نزال المواجهة، وذلك إعمالا للقاعدة التي تقول: "الحُكم على الشيء فرع عن تصوّره".
 

يا حبَّذا لو حلَّقت الإرادةُ في سماء الخيال وعوالم الحُلم؛ ففي الوقت الذي تكتفي فيه الإرادةُ بالركْض فإنَّ الخيال يقفز، وفي الوقت الذي تحوم فيه الإرادةُ فوق الواقع فإنَّ الخيالَ يَستشرِف المستقبل

هذا ويتطلَّب ذلك التغيير وتلك المواجهة-ضمن مُتطلَّبات أخرى عديدة- استحضار قانون الجذْب الذي يُبشِّر بأنّ التركيز على شيء ما كفيلٌ بنيْله، واستيعاب قانون السذاجة الذي يحثّ على تغيير الوسائل بغْية تغيير النتائج، ونسْف ما يُسمِّيه البعض بقانون نيوتن النفسي(الجسم الساكن يبقى ساكنا، والجسم المتحرِّك يبقى متحركا، ما لم تؤثر عليه قوة تغير مِن حالته)الذي يؤصِّل للقصور الذاتي ويَدعو للعطالة ويَركَن للآبائيّة "إنّا وجدْنا آباءَنا على أمة"، وتطبيق قاعدة التخْلية(التفريغ)والتحْلية(الشحن)، والفطام مِن نظرية المؤامرة والإسقاط وإلقاء اللوم على الآخَرين، وسلوك نهْج التدرّج الذي اتَّبعه الشرْع في تحريم الربا والخمر وتشريع الجهاد، إضافة إلى صبْغ الرؤية التغييرية بالوضوح وتَوفُّر الإرادة على إدارة واقتران الرغبة بالقُدرة.

ويا حبَّذا لو حلَّقت تلك الإرادةُ في سماء الخيال وعوالم الحُلم؛ ففي الوقت الذي تكتفي فيه الإرادةُ بالركْض فإنَّ الخيال يقفز، وفي الوقت الذي تحوم فيه الإرادةُ فوق الواقع فإنَّ الخيالَ يَستشرِف المستقبل، وفي الوقت الذي تُعتَبر فيه الإرادةُ فِعلا آنيًّا وموردا ناضبا فإنَّ الخيال وقودٌ دائم وموردٌ متجدِّد…وبهذا كان الخيال لدى الخبراء النفسيّين مِن أساسيات الإبداع، ودعائم التغيير، وركائز ردم الهوّة بيْن ما نستطيعه وما لا نستطيعه.

ولأنّنا في سباق محموم مع العوْلمة المتوحِّشة التي طوّقتْنا مِن كل حدب وصوب، حتى لنحسّ حرَّ أنفاسها ونطالع بروز أنيابها؛ فإنَّ علينا الطرْق بمطرقة "الآن" والضغط على زرّ "هُنا"، فالأمْر جدّ لا هزْل فيه والخطر داهِم لا هوادة معه، ومَن لم يتغيَّر كما يريد غُيِّر على غيْر ما يُريد، ومَن لم يَحكّ جلدَه بأظفاره فيشفى حُكَّ جلدُه بمخالب تَجرح وتُدمِي، ومَن لم يُحصِّن نفسَه بصادق الإيمان ونافع العِلم بات حقلَ تجارب يَعبث به كلُّ مغرِض ومنافِق وصار أغْفل مَن تدور عليه الدوائر…وقد أعْذَرَ ربِّي-سبحانه- إذْ أنذَر فقال: "إنَّ اللهَ لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.