شعار قسم مدونات

ثنائية "اللغة و الهوية" في الجزائر

blogs - فرنسا والجزائر

لا شك أن اللغة تعتبر من أهم الروابط التي تجمع الأمم البشرية بما يبرز هويتها المشتركة، ذلك أن دور اللغة لا يقتصر على كونها أداة تواصل لغوي فقط، إنما يتعدى إلى كونها وسيلة ربط بين الأجيال من الأمة الواحدة تنقل بينها إرثها التاريخي وإنتاجها الفكري بما يعزز اللحمة بين أفراد الأمة ويقوي الشعور بالانتماء لها. وخير مثال على ما سبق ذكره هو الدور الذي اضطلعت به اللغة العربية على مر العصور في الحفاظ على الروابط المتينة التي تربط أفراد الأمة العربية حتى في أحلك الظروف التي مرت بها حين تكالب عليها الأعداء من خارجها منذ الحملات الصليبية مروراً بغزو التتار وصولا الى الحركات الاستعمارية في القرن الماضي وما تعانيه بعض البلاد العربية من تبعاته الى يومنا هذا.

ولم تكن الجزائر لتصنع الاستثناء في هذا، فقد تبؤت اللغة العربية في الجزائر المكانة التي تستحقها منذ عصر الفتوحات الإسلامية على يد موسى بن نصير وعقبة بن نافع جالبة معها كل خير إلى هذه البلاد المباركة وإن مما يحسب لهذه اللغة هو عدم محاولة طمس اللغات والثقافات المحلية، ولعل ذلك مما ساهم في بقاءها على مر الدهور وتعاقب العصور بالرغم من مرورها بفترات وهن وضعف أدت إلى تراجعها لصالح لغات وثقافات دخيلة أرسى دعائمها المستعمر الغاشم بهدف القضاء على هوية الشعب الجزائري العربي المسلم تمهيداً لإلحاق الجزائر بفرنسا، لكن دور اللغة العربية في الحفاظ على الهوية الوطنية حال دون ذلك، لأن انتماء هذا الشعب الأبي إلى الأمة العربية الإسلامية كان أكبر من أن تزعزعه محاولات يائسة ما زادته إلا تمسكاً بهويته وثقافته وقيمه العريقة.

إن الطائفية اللغوية التي أرادت فرنسا إذكاءها ترتكز في الأساس على تلفيق التناقض بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، فعملت في بادئ الأمر على تخريج طبقة مثقفة كونتها في مدارسها وجامعاتها في فرنسا واجتهدت على تشرّبهم أفكار العلمانية الغربية

ولعل الواقع العصيب الذي تعيشه اللغة العربية حاليا في الجزائر من تردي أحوالها وهوانها بين الناس ما هو إلا نتيجة لمخطط استعماري بدأته فرنسا أثناء الاحتلال وأكمله بعد الاستقلال قوم منّا تشربوا افكارها وانبهروا بحضارتها الزائفة فتبنوا أهدافها القاضية بإزالة اللغة العربية من هذه البلاد تمهيداً لفسخ الهوية العربية الإسلامية التي طالما كانت السد المنيع في وجه الغزاة والطامعين، وإن لم تفلح فرنسا في مسعاها الخبيث طيلة مئة وثلاثين سنة من وجودها على أرض الجزائر فقد أفلح القوم في ذلك أو كادوا.

إن فرنسا الاستعمارية وبعد قيامها بعديد الدراسات الأنثروبولوجية في الجزائر إبّان الاحتلال بواسطة مجموعة من المستشرقين الفرنسيين الذين كرسوا حياتهم في البحث عن نقطة الضعف التي من خلالها يمكنهم إضعاف الهوية الوطنية للشعب الجزائري الذي أظهر مقاومة بطولية وتمسكاً عجيباً بمقومات كيانه والمتمثّلة في الإسلام ديناً والعربية لغةً والأمازيغية أصلاً وانتماءاً، اهتدت فرنسا بعد جهدٍ جهيدً إلى أن الوسيلة الأنجع لتفكيك التلاحم الشعبي بين الجزائريين هو اللعب على وتر الطائفية اللغوية ومن خلالها القضاء على الشعور السائد عند عامة الشعب بالامتداد الحضاري الذي كان يربط الجزائر بباقي الأمة العربية الإسلامية في المشرق.

إن الطائفية اللغوية التي أرادت فرنسا إذكاءها ترتكز في الأساس على تلفيق التناقض بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، فعملت في بادئ الأمر على تخريج طبقة مثقفة كونتها في مدارسها وجامعاتها في فرنسا واجتهدت على تشرّبهم أفكار العلمانية الغربية والتنكر لمكتسبات الحضارة العربية الاسلامية الممتدة جذورُها في الجزائر لقرون من الزمن.
 

وبعد ذلك بدأت تنتشر بعض الأفكار الدخيلة على المجتمع الجزائري مفادها أن العربية غريبة على هذه البلاد وما كانت لتنتشر إلاّ على حساب اللغة الأصلية للسكان التي هي الأمازيغية، والمتأمل للتاريخ الزاهر التي عاشته العربية والأمازيغية معاً قبل الاحتلال الفرنسي وحتي في بداياته يدرك يقيناً أن الاختلاف بين العربية والأمازيغية إنَّما هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد ويشهد على ذلك الزمن الطويل الذي تعايشت فيه اللغتان جنبا الى جنب من فترة الفتوحات الى قبيل الاحتلال، ويتجلى هذا التعايش في كون اللغة الأمازيغية تبنت الكثير من المفردات العربية وأن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن الأمازيغ الأحرار عبر العصور لم يكونوا ينظرون الى العربية على أنها مصدر خطر على لغتهم وهويتهم بل كانت في نظرهم عبارة وسيلة تربطهم بدينهم الجديد.

إن الواجب على أبناء اللغة العربية في الجزائر في الوقت الراهن هو الاهتمام بها تعلّماً وتعليما، استعمالا وتأليفاً والاعتزاز بها كمكوِّن من أهم مكونات الهوية الوطنية، وتفضيلها على غيرها من اللغات الأجنبية حتى تعود لغة علم وازدهار

إن معظم الذين دافعوا عن اللغة العربية ضد كيد المستعمر هم من العلماء ذوي الأصول الأمازيغية من أمثال مؤسس جمعية العلماء المسلمين ورائد النهضة في الجزائر العلاَّمة عبد الحميد بن باديس الصنهاجي الأمازيغي الذي نظم قصيدة مشهورة يدافع فيها عن المقومات العربية والإسلامية للجزائريين يقول في مطلعها: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب، ومن المثقفين الذين ذادوا عن حياض العربية في الفترة التي تلت الاستقلال الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم وغيرهما كثير.

إن الواجب على أبناء اللغة العربية في الجزائر في الوقت الراهن هو الاهتمام بها تعلّماً وتعليما، استعمالا وتأليفاً والاعتزاز بها كمكوِّن من أهم مكونات الهوية الوطنية، وتفضيلها على غيرها من اللغات الأجنبية حتى تعود لغة علم وازدهار وتسهم بذلك في رقي المجتمع واتصاله بمجده الماضي ولتكون مطيته الى المستقبل الزاهر الذي يعتز فيه الفرد الجزائري بكونه مسلماً وعربياً وأمازيغياً، وإن هذا -لعمري- لهو السبيل الوحيد لمواجهة الغزو الفكري الذي يتعرض له الشباب في الجزائر خصوصاً والعالم العربي عموماً من طرف الحضارة الغربية التي أساسها القضاء على كلّ ما من شأنه أن يربط الأمم بماضيها المجيد ويؤهلها لتبني مستقبلها الزاهر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.