شعار قسم مدونات

العمل الخيري بين شح الآلات وتيه المآلات

blogs العمل الخيري

مما لا شك فيه أن العمل الخيري بأوطاننا أضحى علامة فارقة ومميزة لمجتمعاتنا، بما يمكن اعتباره ترجمة منطقية لطبيعتنا الإنسانية، وكذا لموروثنا الثقافي والاجتماعي والديني الذي يولي للتكافل والتراحم أهمية قصوى، والمتابع للعمل الخيري بالوطن العربي عامة وبالخليج العربي خاصة، يلْحَظ ويتحسس نضجا وتطورا كبيرين، وقد وصل مداهما إلى أقاصي الأرض، ليشمل العمل الخيري بنفعه المسلمين وغير المسلمين، في رسالة إنسانية راقية، تهدف إلى خدمة الإنسان والمحتاج واللاجئ والفقير، أيا يكن لونه وعرقه ودينه، غير أن هذا النمو المضطرد يصاحبه تحديات تكبر يوما بعد يوم.

 

خاصة والمنطقة العربية تموج بالاضطرابات والمآسي، وما الأرقام والاحصاءات التي تتناول الأيتام والأرامل واللاجئين والمُهجَّرين في دولنا العربية، إلا توصيف عددي مرٌّ وقاسٍ، يؤكد الحاجة إلى تطوير نظم وممارسات العمل الخيري، حتى يعبر المسالك الوعرة ويتحول من حالة الهبَّات العاطفية إلى العمل المؤسسي الذي يحقق النفع والرفع والدفع، في زمن لا تنفع فيه النيات الطيبة ودافعية الخير والعواطف المتقدة، للتغلب على العقبات وضعف الأدوات، وسيل التهم التي توزع يوميا على منظماتنا الخيرية من طرف بعض المؤسسات والهيئات وحتى الحكومات.

"من التأصيل إلى التنزيل، مساحة لا دين لها "

التحديات كثيرة والصعوبات مستمرة على الأرض، وتستمر معها الحاجة إلى المشاريع النوعية، فالجمع بين الفكرة والبذرة والثمرة، حلي بكل جهد مخلص يروم الخير للناس، لذا كان النفع عنوان هذه الأعمال والجهود

إن العمل الخيري في الإسلام مقصد ثابت وعام، يتعدى نفعه إلى مقاصد أخرى، وقد امتدح الله عز وجل الخير وفاعليه، كما حذر من مناوئيه، وهي دلالة على الخيرية التي تتسم بها الرسالة المحمدية مقصدا ومآلا، ولعل العديد من المؤسسات الخيرية القائمة اليوم، تستدر مواردها المالية من أصحاب الخير باستحضار جزئية الأجر والثواب، وهذا مما لا شك فيه جزء من النفع الذي يحصل للمعطي في الدنيا والآخرة، لكن أن يظل هذا المدخل شجرة تغطي غابة شاسعة من الافرازات والمخرجات، والتي بدأت تتسم بالتيه والضعف في نقل العمل الخيري من (حيز التشريع إلى حيز المشروعات )، والتي وإن وجدت فقد حوصرت بضحالة المكاسب التي تتماهى يوما بعد يوم، لمشاريع كلفت جهدا ووقتا ومالا، وهي رسالة قوية وتنبيه على شكل إنذار لكل منتسبي العمل الخيري، على أن الجودة والاستدامة مطلب وركن ركين.

 

فالتحديات كثيرة والصعوبات مستمرة على الأرض، وتستمر معها الحاجة إلى المشاريع النوعية، فالجمع بين الفكرة والبذرة والثمرة، حلي بكل جهد مخلص يروم الخير للناس، لذا كان النفع عنوان هذه الأعمال والجهود، نفع وتنمية لن يتحققا إلا إذا اتسمت مشاريعنا بالقدرة على توليد القيمة المضافة للمنتفعين، وهو مقصد لطالما اصطدم بضعف كفاءة في التنفيذ، حيث تعتمد جل الجمعيات والمؤسسات الخيرية على شركاء محليين يفتقدون لكثير من مقومات العمل المنهجي، مما يجعل رفع كفاءتهم على رأس أولويات المؤسسات الخيرية، بما يسمح برفع الكفاءة لحفظ الأرواح بتوفير متطلبات الحياة تارة وفض النزاعات تارة أخرى .

والحقيقة أيضا أن جودة الآداء وإن كانت الهم المشترك لدى مؤسساتنا الخيرية، فإن الأهبة لمواجهة التحديات المستقبلية، يجب أن تظل في صلب الهم والاهتمام، لذا بادرت العديد من هذه الهيئات للتهيؤ لمرحلة ما بعد فطام التبرعات، وهو تحول صحي، يضمن استدامة الموارد المالية وتجديدها،بعيدا عن تقلبات القوانين والتشريعات .

"فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"
اهتمت مؤسساتنا الخيرية بمجالات عديدة في العمل الخيري، والمُطَّلِع على طبيعة هذه المشاريع، يقف جليا على انجازات حقيقة، لكن من الناحية المنهجية والعملية، يلاحظ طول أمد الإنجاز رغم حجم العمل الكبير الذي لا تعبر عنه الإنتاجية الضعيفة، حتى كنا كالمسافر الذي ارهق راحلته وقسم ظهرها ف(لا أرضا قطع ولا ظهرا ابقى)، وينضاف إليها طغيان للمشاريع الانشائية على بقية المشاريع الأخرى.

 

فالتنافس على بناء المساجد والتبرع بالمصاحف، صورة جميلة تؤكد بما لا يجعل مجالا للشك تمسكنا ببيوت الله وتيسير شعائر الدين من خلال المساجد وتوفير المصاحف، والحقيقة أيضا أن الحاجة لكتاب الله في بعض الدول كبيرة جدا، وتوفير المصاحف للناس هو عيد حقيقي لهم، وهذا ما دأبت الجمعيات عليه، لكن المتأمل لوضع المحتاجين اليوم، يدرك تماما أن الحال شبيه بنقاش حول آداب السحور باشراك أناس لم يستنى لهم الحصول على وجبة افطار في رمضان، مما ينم عن إدراك ضعيف لأوليات الأماكن التي جيب التدخل فيها.

 

لعل مؤتمر العمل الإنساني المنعقد بالدوحة مؤخرا والذي افضى إلى منتدى للعمل الخيري يجمع الشرق بالغرب، خطوة جيدة لبناء الثقة وإيجاد فضاء مشترك يسمح للمهتمين والعارفين بخبايا العمل الخيري، تعزيز المكتسبات عبر ترشيد الممارسات وتجويد الأداء

ومن الناس من يعتبر هذه الملاحظات وغيرها دليل عداء للعمل الخيري الإسلامي، بينما المقصد أن بطون الناس الخاوية وأجسادهم العليلة لن تسهم في إعمار بيوت الله، والمطلوب منا ليس البناء فقط بل المقصد أن يحج الناس إلى بيوت الله بشكل يعيد للمسجد دوره في تنظيم حياة الناس وتهذيب سلوكياتهم وزيادة الألفة بينهم، كطريق لمجتمع فاضل يسمو فيه الخير والخلق الحسن، لذا برزت حالات عديدة كان المُقدَّم فيها، اإطعام الجائعين الذين التصقت جلودهم بعظامهم، وهم محاصرون بالأوبئة والأمراض، لذا حلي بنا ترقية الممارسات في العمل الخيري بشكل يستحضر مقاصد المقاصد، وكذا الأولويات التي تضمن تطورا ونسقا بالتوازي مع كل حملة تدخل ومساعدة، فالغاية التي يجب أن نتشارك جميعا في تحقيقها هي تنمية الانسان بالعون أولا ثم بالمشاريع ثانيا وثالثا ورابعا، من خلال أساليب حديثة تضمن تنمية مستدامة تستجيب لتحديات الغد، وليكن مقدار النفع وسرعة الينوع وديمومة المشروع، محددات نحرص عليها في التخطيط لنفع الناس، حتى لا يتحول الجفاف إلى مجاعة قاتلة والمرض إلى مجازر تبيد الصغير قبل الكبير .

"متلازمة أبدية "المهنية وحسن الإنجاز "
أن تنجز في الحياة، مرادف للاتصاف بالمهنية، لذا كان وجود فريق العمل المتمكن إحدى ركائز العمل الناجح، والمتأمل للقدرات العاملة في المجال الخيري، يسعد ويستبشر بالطاقات التي تلتحق به، لكن هل فريق العمل وحده كفيل بإحداث الفارق؟ والحقيقة أنه عامل غير كاف ما لم تستكمل منظومتنا الخيرية، إيجاد مراكز الدراسات المتخصصة، التي تُعنى بالبحوث الجيدة والدراسات المحوكمة، والتي تعتبر اللبنة الأساسية لبناء عمل خيري عصري، يستجيب لمتطلبات الاستدامة. ويسهم في جسم المعرفة المتعلقة بالعمل الإنساني الإسلامي، الذي يحاول المتربصون به وسمه بالتشكيك لإضعاف ثقة المقبلين عليه والمنتفعين به على حد سواء.
 

وإذا كانت الصحة والقبول محل نقاش بين الأصوليين خاصة ما يرِدُ من نواقض الصحة خارج دائرة العمل، فإن التوجه نحو تأسيس هذه المراكز المتخصصة المُطعَّمة بالخبراء يظل توجها عاجلا وملحا ابتداءا، على أن يحظى بالقبول والاسهام من مختلف الفاعلين في القطاع الخيري انتهاءا، لأن المقصد واحد والهم واحد، فيما الحاجة إلى المعلومات والأرقام ودراسة الظواهر المصاحبة، مطلب أساسي لا يصح العمل إلا بها، ولعل مؤتمر العمل الإنساني المنعقد بالدوحة مؤخرا والذي افضى إلى منتدى للعمل الخيري يجمع الشرق بالغرب، خطوة جيدة لبناء الثقة وإيجاد فضاء مشترك يسمح للمهتمين والعارفين بخبايا العمل الخيري، تعزيز المكتسبات عبر ترشيد الممارسات وتجويد الأداء في العمل الإنساني، والذي سيبقى مَهْما واجهته العقبات، واحدا من أجمل فصول العطاء والبذل في عالم مضطرب ضاع فيه الإنسان وغابت فيه الإنسانية .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.