شعار قسم مدونات

الرسالة ما قبل الأخيرة

A drug addict stands behind the bar at a Hamas-run prison in Gaza City March 1, 2017. Picture taken March 1, 2017. REUTERS/Mohammed Salem

هو اليأس يا صغيرتي؛ اليأس المنصب على الحزن الذي يتغذى على بقايا الروح، الذي يقتل أبسط تفاصيلنا البائسة الصغيرة، الذي يجرفنا إلى قيعان في ركام الخراب المنسي في النفس المهدهدة؛ ليقذف بنا إلى قوقعة الوحدة ويغلق بابها علينا. هو اليأس يا حبيبتي الصغيرة، الذي يجعلنا نجمع فتات الأمل وننثره بيد مرتجفة على رصيف الوجع فيموت. اليأس الذي يقودنا للاختيارات الخاطئة التي تولد يأسا أكبر.

أتسأل إن كان بإمكاننا تجنب هذا اليأس أو الوقوف عليه لفهمه، أيكون لزاماً على إخبارك بحقيقة الأمر، أم أن على تفادي كتابة هذه الكلمات التي تصل إليك من خلال نظرة واحده منك إلى عيني، تستشفينني كورقة منسية غادرت صخرة وسقطت على شاطيء حر مهجور منذ الأزل. لا تصدقي من يحدثك عن كذبة اسمها الأمل، بائعو الأحلام من حولك كثر فلا تجعليهم يخدعوك ويجرفونك لكلماتهم البرَّاقة.

إنه الكذب يا صغيرتي. فلا تخدعك القصيدة، ولا يأخذك الشعر، ولا تجعلي للكلمات مكانة في قلبك؛ فالكلمات لا تصنع المعجزات. ولا تستمعي للشعارات الرنانة ولا تهتزي لزهرة تحمل اسم النرجس؛ فعبير النرجس يختفي مع أول هبةٍ لرياحٍ حقيقية. ولا تصدقي أن شروق الشمس يدوم إلى الأبد، لا تصدقي أن شيئاً يدوم إلى الأبد. ولا تصدقي أن القمر يظل بدراً طوال الشهر، فلابد له أن ينقص مع دورة كل يوم ليعود فيكتمل من جديد، يكتمل ليوم واحد فقط ويعيش ناقصا باقي أيام الشهر عاجزاً عن الفهم.
 

حين تموت الأحداث في حياتنا تموت أيام عمرنا ببطءٍ ودون أن نكترث. وحين تكون فوهة الأحداث فينا متسارعة تُسرق الأيام من عمرنا. والأيام مشرطٌ حادٌ ينتزع بقايا أرواحنا قطعة قطعة حتى نسقط لأخر مرة

لا تمشي خلف موسيقى انتفضت لها روحك؛ فالموسيقى تغذي الروح وتتغذى عليها. ولا تشتري الأزهار؛ فروح الأزهار قصيرة تسحب ما تبقى فيك عندما تذبل. ولا تحلقي إلى الأعالي خلف السحاب الذي يهبط أول ما يثقله الصعود. يتساقط مطراً؛ يهرب من الأرض ليستريح إلى السماء فيرهقه الصعود ويتعبه البقاء غريباً فيها فيسيل دمعاً أو دماً من السماء إلى الأرض. وربما يرفض النزول تمنعه عزة نفسه من العودة، فيموت في الأعالي فيسقط كتلاً من ثلج أو برَد.

حين تموت الأحداث في حياتنا تموت أيام عمرنا ببطءٍ ودون أن نكترث. وحين تكون فوهة الأحداث فينا متسارعة تُسرق الأيام من عمرنا. والأيام مشرطٌ حادٌ ينتزع بقايا أرواحنا قطعة قطعة حتى نسقط لأخر مرة. هما العهن والعهر حين يجتمعان في زمان وفي مكان واحد يقضيا على الإنسانية ويذبحا ما تبقى فيه من معالم حياة على هذه الأرض. هم يقطعون الكهرباء من عقولنا لنعود لا نرى، ونكون بقايا من تراب بلا أرض ولا نور.

خبزنا صار أسود يا شام، أسود من كثرة ما شرب من دمائنا. وكنت وسأظل أسأل نفسي دائماً إن نحن لم نمت فماذا سيتبقى للآخرين غير الموت، وهو ما كنت لا أريده، أما الآن فأنا لا أدري ما أريد وما لا أريد. فبين ما أريده وما لا أريده تقع مسافات وجودنا على هذه الأرض. أعتذر لك لأنني لم أكن ذلك الأب الذي تستحقينه، ولم أكن دائماً موجوداً لأحميك، لطالما أردت أن أحمي لك مستقبلك أو ظننت أني أفعل ذلك من خلال ما أقدمت عليه، أعلم أنك لن تفهمين ما أقوله لك بخصوص هذا الوداع المؤسف الآن لكنك ستدركين ذلك مع الوقت. ستفهمينني جيداً وستدركين حقاً أن ما فعلته كان هو الخيار الوحيد الذي امتلكته في ذلك الوقت.

أعلم أنك واجهتي صعوبة حين رايتهم وهم يجروني أمام عينيك مكبلا، وبأنك عشت وقتاً صعباً كي تتخطي الأمر. لطالما فكرت بالرحيل عن هذا المكان فكرت بأخذك وأخذ أمك والرحيل من هنا، لأي مكان على هذه الأرض أي مكان تصان فيه حقوقنا، نشعر فيه ببشريتنا، ونحفظ فيه ما تبقى من كرامتنا. لكني ما كنت أستطيع أن أغادر هذه البلاد، هذي البلاد، نعم البلاد التي تسمى بالوطن تلك الكلمة نعم الوطن الذي لم يكن لنا ولكننا أحببناه.
 

هذا الإنسان الذي يقبع بداخلي الذي هو أُذِل إلى الحد الذي فقد معه كرامته فكره وحريته فقد أماله، وهو بائس وأقصى ما يستطيع الحلم به هو أن يجد مكاناً ليتبول فيه من دون أن يشعر بأنه مراقب

البلاد التي أنكرتنا رغم معرفتنا بها وبأدق تفاصيلها ترابها وهوائها ونسيمها، وطننا الذي نفر منه إليه. الوطن الذي إما أن نعلو سادته ونعلو ما يعلونه لنحظى بما يشبه العيش، أو نعلو الله فنموت قبل أن نتنفس. تلك الرقع العربية الغريبة عنا رغم وحده اللغة ووحدة الدم، تلك البقع المشوهة المشوبة بدماء هَويات أهلها القاتلة. تلك الرقع الدامية التي تلفظنا إلى حيث القبور أو المنافي النهائية حتى في خرابها الأخير. أدركت حقاً أن تلك الأرض التي لا تنتمي إلى ولا أنتمي إليها. تلك البلاد البعيدة التي مهما فعلت تمتلكني وللأسف لا أمتلك فيها شيء ولا حتى رغيف الخبز الذي أحظى به لأكله. لا تستعصي عليَّ الكلمات ولا تعيشي عصية الفهم عليها، فأنا أكتبها وكلها رسائلٌ آمل أن تصل إليك.

 

ملاحظة صغيرة قبل أن تقرأي ما كتبت في الأعلى أحبك كما أنت، ولا تستمعي لأي من نصائحي التي كتبتها فهي نزيف من قلم يعوي خلَّفه السراب وقتلته الأمال. هي لا أكثر من كتابات عبثية لشخص عُذِّب في السجون والأن مَلقيٌ ومهمل في زنزانة ذات سرداب حديدي كبير لا يدرك حجمه من شدة ألمه. ولا يستطيع أن يرفع رأسه ليرى النافذة التي يدخل منها بصيص النور، أصبح يخشى النور يخشى بصيص الأمل. الأمل قاتل يا شام قاتل يا ابنتي بت أخشى الناس أخشى الإنسان الذي كنت أدافع عن إنسانيته حتى أني صرت أخشاني.أخشى هذا الإنسان الذي يقبع بداخلي الذي هو أُذِل إلى الحد الذي فقد معه كرامته فكره وحريته فقد أماله، وهو بائس وأقصى ما يستطيع الحلم به هو أن يجد مكاناً ليتبول فيه من دون أن يشعر بأنه مراقب.

ابوك الذي يحبك إلى الأبد ولا يدري متى سيخرج وإن كان سيلقاك ابداً، أو إن عدت راغبةً في أن تريه. أخبروني بأنك ترفضين استلام رسائلي وأيضاً أنك لم تعودي تأتين لزيارتي. وأنا لا أصدقهم لا أستطيع أن أصدقهم، وإلا لما كنت حياً حتى الأن. هل ستصلك رسالتي؟ هل ستقرئينها؟ هل أنت بخير؟ أحبك يا ابنتي ولو مزقوني قطعاً سأظل أحبك وأحب هذه الأرض التي سجنت فيها منذ سجنت فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.