شعار قسم مدونات

ما وراء الصورة

blogs - أطفال مدرسة
حدثنى رحمه الله عن موقفٍ حدث معه على أعتاب شبابه فقال لي: جاء في امتحان شهادة الثانوية في موضوع الإنشاء أن نكتب عن الانتقال إلى منزل جديد فحادثني عقلي أن ليس المعنى بمثل تلك البساطة، وأن هناك اختبار داخل الاختبار، فكيف لفتى مثلي على أعتاب نضجه الفكري والذي يجب أن يُوَلِّد إبداعاً يُعتد به، استقلإلية ذاته وتخطيطه لمسار حياةٍ يختارها بكامل إرادته؛ أن يطالب بالكتابة عن الانتقال إلى منزل جديد، إذن فلا بد أن المقصود هو الانتقال لعهد جديد.

وانكفأ الفتى يكتب بكل حماسة عن رؤيته الفتية لما هو قادم من مستقبل حياته، وربما أولاده من بعده، حدثهم عن التنمية الإنسانية، وأن التعليم هو مدخلها الرىٔيس، والإنسان هو المورد الذي يجب أن يستثمر فيه وتنمى مهاراته وقدراته و…. وكم خاب ظنه عندما رسب في الاختبار.

في عام 1934، جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية، موضوع الإنشاء، ما يأتي:
"تقابل قِطّاَّن، أحدهما سمين تبدو عليه آثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدَّث كل منهما صاحبه عن معيشته؟".

حار التلاميذ في أمرهم وضاقوا جميعا أن تكون في رؤوسهم الصغيرة عقول القطاط، وسخطوا على من يضع مثل ذاك السؤال من أستاذتهم، فكيف لم يلقنوهم مع العربية والإنجليزية لغة المواء والنهيق والحمير وغيرها مما يمكن أن يتم به هذا العمل االلغوي الجليل الذي تقوم به بلاغة الحيوانات وأشباهها، وبينما التلاميذ يجادلون أستاذهم، نظر أحدهم بخبثٍ إلى أستاذه قائلاً: أما أنا فقد أوجزت وأعجزت.

فرق بين من يجد الجوهرة فيطمسها في التراب ومن يبحث عنها فيقيمها ويلمِّها ويُظهر بريقها للوجود.

سأله أستاذه: فماذا كتبت؟!!
نظر إليه التلميذ ضاحكاً: كتبت هكذا: يقول السمين: ناو، ناو، ناو.. فيقول النحيف: نو، ناو نو.. فيرد عليه السمين: نو، ناو ناو.. فيغضب النحيف، ويكشر عن أسنانه ويحرك ذيله ويصيح: نو نو نو… فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناو… فيثب عليه النحيف ويتصارعان وتختلط النونوة لا يمتاز صوتٌ من صوت، ولا يُفهم معنى من آخر، ولا يمكن حينها الفهم عنهما إلا بتعبٍ شديد بعد مراجعة قاموس القطاط!

قال الأستاذ: والله ما هذا إلا موهبةٌ وفن وضعهما الله في عقلك الغض، فصنعت ما يصنع المبدعون وأظهرت فنك بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسك، فما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي ولا سبيل لجواب السؤال إلا ما وصفت وحكيت من واقع القطط، والواقع هو الجديد في الأدب فبارك الله عليك.

وبين المثال الأول والثاني شتَّان، وبين استجابة أستاذيهما كالفرق بين من يجد الجوهرة فيطمسها في التراب ومن يبحث عنها فيقيمها ويلمِّها ويُظهر بريقها للوجود، أرادوا لطالبٍ على أعتاب مستقبله أن يٌصبح نسخةً أخرى وغير منقحة فكان في إجابته عالماً مثقفاً، وأرادوا لطفل على أعتاب بنائه العقلي أن يكون هِرّاً فكان في إجابته أستاذا تمرد بذكائه على من تفتق ذهنه لوضع سؤال مثل هذا ولو كان ذلك الأستاذ ذو ضمير حي لتحول قطاً حتى يكون التصحيح على قدر الإجابة، أو لو أراد أن يصصحه بعقلية إنسان لأدرك وهو يضع السؤال أنه موجه لإنسان آخر.

وهنا يبقى السؤال: هل كان في الإمكان أن يدرك بعض النباهة والتروِّى كلا الأستاذين كي يكون باستطاعتهما استكشاف ما وراء الصورة؟! فبمثل تلك العقول تنهض أجيال وتموت أخرى في مهدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.