شعار قسم مدونات

قطرية الخطاب الديني وتآكل مفهوم الأمة

blogs - شيوخ الدين

لا ينفك الباحث في المدارس الإسلامية المعاصرة عن الالتفات إلى طبيعة الدولة القطرية (القومية) المعاصرة ومدى تأثر المؤسسات الدينية الرسمية بفلسفتها (القُطْرية)، ومدى انعكاس هذا التأثر في شكل ومضمون الخطاب الشرعي الرسمي الصادر من هذه المؤسسات، ومدى التأثر السلبي لمفاهيم إسلامية أصيلة كان من المفترض أن تقوم المؤسسات الدينية الرسمية على حمايتها وتنميتها؛ مثل: الأمة، والوحدة الإسلامية، فإذ بهذه المفاهيم تتآكل وتنكمش؛ بسبب غلبة النزعة القُطْرية التي حجَّمت من دور المؤسسات الدينية في دعم قضايا الأمة الجامعة، وحاولت -هذه التوجهات القُطرية الضيقة- أن تصرف هذه المؤسسات أساسا لتحقيق المصالح القُطْرية الضيقة، الأمر الذي يشكل فصلا من فصول أزمة المؤسسات الدينية وخطابها الذي لم يعد ملبيا تطلعات الجمهور الإسلامي نحو خلاص الأمة من مأزقها الراهن.

وتعد لوثة القطرية (المغالية) من أبرز مواطن الخلل التي تظهر عند تحليل الخطاب الشرعي الرسمي المعاصر الذي عكس طبيعة التغيرات الجذرية التي طرأت على وضعية المؤسسات الشرعية (الدينية) المعاصرة، خاصة بعد استتمام عمليات إحكام القبضة الحكومية عليها عبر عدة مراحل بدأت -في مصر مثلا- منذ حكم محمد علي باشا ومرت بمراحل متتابعة من التأميم بلغت ذروتها وقت الحقبة الناصرية، ولم تستطع هذه المؤسسة الخلاص منها حتى الآن ، مع الوضع في الاعتبار ما نراه من بوادر يقظة أزهرية صاحبت تصاعد الهجوم العلماني- الرسمي الحالي الساعي لتحميل الأزهر أوزار معركة لا ناقة له فيها ولا جمل. 
 

تعد القضية الفلسطينية من أقوى الكواشف عن أضرار قُطرية الخطاب الشرعي الرسمي المعاصر وتخليه عن (مبدأ الأممية)؛ لمصلحة النزعة القُطرية المغالية في عزل كل شعب من شعوب المسلمين في إطار المصالح الضيقة للدولة القومية العلمانية

ويقصد بالقُطرية: استدعاء المؤسسة لإبداء الرأي في مصالح داخل حدود القطر بناء على ما قرره الفقهاء من أحكام مبناها عن أممية الخطاب الإسلامي العالمي.  وهنا تظهر التناقضات النابعة من تنزيل خطاب ذي طابع إسلامي أممي عالمي على واقع ذي طابع قطري وفلسفة قومية علمانية ضيقة.

وتعد القضية الفلسطينية من أقوى الكواشف عن أضرار قُطرية الخطاب الشرعي الرسمي المعاصر وتخليه عن (مبدأ الأممية)؛ لمصلحة النزعة القُطرية المغالية في عزل كل شعب من شعوب المسلمين في إطار المصالح الضيقة للدولة القومية العلمانية؛ تحت اسم: (المصلحة الوطنية). وبهذا انهار ركن من أركان نظرية الأمن القومي يقوم على امتداد فلسفة الأمن القومي إلى خارج الحدود، بحيث يشكل تأمين الجار -العربي أو المسلم- مطلبا مهما لتأمين الداخل.

كما أن الموقف من قضية الجهاد كاشفٌ آخر عن أبعاد الأزمة (تقطير الخطاب الشرعي) إن جاز التعبير؛ حيث اكتفى الخطاب الشرعي الرسمي بحصر المفهوم في مطلب تأمين الثغور (وقصد بالثغور فقط: حماية حدود الدولة القومية) بحيث يسقط الإثم مهما عبث الأعداء خارج هذه الحدود حتى لو امتد العبث إلى المقدسات، وبهذا نزل كلام الفقهاء -الصادر عن المبدأ الإسلامي الأممي العالمي- على واقع النزعة القُطرية المغالية في الدولة القومية الحديثة، مع أن الفقهاء قصدوا بتأمين الثغور -الذي يُسقِط الإثمَ عن الأمة- تأمين ثغور المسلمين، فلا يعقل أن يُظَن بالفقهاء أنهم يسقطون الإثم اكتفاء بتأمين ثغور الدولة القومية مع بقاء المقدسات سليبة كما نرى. 

وهنا يظهر أن عدم التفات الفقيه المعاصر للاختلاف في طبيعة مفهوم الدولة -عما كان عليه الحال وقت صياغة الخطاب الفقهي المنقول عنه- ينتج الخلل والتناقض، ويؤدي لتنزيل كلام الفقهاء على غير مقاصدهم.

تاريخ القطرية (التمصير) بالأزهر:
لا جدال في أن الانتماء للوطن مدعاة للفخر والاعتزاز، خاصة إذا كان الوطن هو أرض الكنانة، ولهذا فنحن المصريين نفخر بأن الأزهر -بحكم الوجود والتاريخ- مؤسسة مصرية في الأصل.

لكن الإشكالية تنهض حين يراد تغيير معنى الانتماء، فيتغير شكل الانتماء الطبيعي -بحكم الوجود والتاريخ- وتصنع حالة جديدة من القُطرية (الحاصرة)، أو (القوميات الحابسة) بتعبير بعض أساتذتنا، ينتج عنها تقزيم الدور الأزهري وتحجيم عالميته، والمساس بمعاني الوحدة التي كانت تسوي بين الأزهريين على اختلاف أجناسهم، بحيث لا يكون ثمَّ معيارٌ لتفضيل أزهري على أزهري إلا بالاستقامة الشخصية والمكانة العلمية.

ولقد كانت مكانة الأزهر تنسحب على شيوخه جميعًا بصرف النظر عن جنسيتهم، فمثلا لما أهين الشيخ الشريف السيد (قاسم بن محمد) التونسي (ت 1093 هـ) من طرف بعض المماليك، ((تحزبت له العلماء، وكادت أن تكون فتنة عظيمة، ولكن الله سلم)). الجبرتي (1/ 543)

ومن مظاهر القُطْرية (غير المفضلة بالمؤسسات الدينية): ما استقر عليه الحال في العقود الأخيرة من ضرورة أن يكون شيخ الأزهر مصريا، على الرغم من أنه مصدر فخر لنا معشر المصريين- وأن يكون هذا الشيخ المصري معينًا من قبل الحكومة المصرية، ومكمن الإشكال في هذا الشرط: أن هذه الآلية -الغريبة على التاريخ الأزهري- كانت من مظاهر (تقطير) الأزهر، على نحو أدى لنتائج سلبية أضرت بمكانة الأزهر، وأضعفت تأثيره، وقلصت من أمميته.

فهذا الشكل الجديد جعل الأزهر يشبه إلى حد كبير بقية مؤسسات الدولة المصرية التي يشترط في رئيسها أن يكون حاصلا على الجنسية المصرية ومعينا من رأس السلطة. وقد يكون هذا مقبولا إذا كنا إزاء مؤسسة سياسية أو إدارية لا يضيرها أن تكون تابعة للسلطة المركزية، أما إذا كنا بإزاء مؤسسة إسلامية عالمية فالوضع يصير مشكلا ومثيرا للتساؤلات عن حرص السلطة على هذا التمصير.
 

كان من نتاج التمصير أن تراجع تأثير الأزهر داخليًا وخارجيا، فلم يعد للأزهر دور قوي في نصرة قضايا الأمة خارج حدود الوطن، إذ اقتصر الدور الأزهري على إصدار تصريحات ودعوات لا تلبي طموحات المسلمين

وتظهر المشكلة بوضوح إذا ما قارنا بين وضعية الأزهر الشريف بعد استتمام عملية التمصير وبين وضعية الفاتيكان مثلًا، فهذه المؤسسة الدينية ينتخب رئيسها من بين أعضاء المجمع المقدس دون أدنى تدخل من السلطة الإيطالية، ودون أن يشترط انتماء رئيسها (البابا) لجنسية دولة المحضن (إيطاليا)، ولا شك أن هذه الوضعية المستقلة تنعكس بشكل إيجابي على مكانة المؤسسة العالمية ومدى ما تتمتع به من إجلال في نفوس أتباع الديانة وغيرهم، وأبعد عنها شبهة التوظيف في خدمة المصالح الضيقة.

ويعود تاريخ تمصير الأزهر إلى تلك اللحظة التي أريد فيها للأزهر أن يصير مؤسسة من مؤسسات الدولة بعد أن كان مؤسسة من مؤسسات الأمة والمجتمع، وهي نفس اللحظة التي استشعرت فيها السلطة القلق من الدور القيادي الذي كان يقوم به الأزهر في حماية الجماهير من بطش السلطة من زمن المماليك، فأريد للأزهر أن ينحصر دوره في الناحية العلمية، وبعض الأنشطة الاجتماعية التي لا تشكل مصدر إزعاج، كتوزيع الزكاة والمساهمة في الحفاظ على الوحدة الوطنية.

وكان من نتاج هذا التمصير أن تراجع تأثير الأزهر داخليًا وخارجيا، فلم يعد للأزهر دور قوي في نصرة قضايا الأمة خارج حدود الوطن، إذ اقتصر الدور الأزهري على إصدار تصريحات ودعوات لا تلبي طموحات المسلمين.

وفي الختام أرجو ألا يفهم من كلامي أني أقصد إدانة المؤسسات الدينية في وقت تتعرض فيه لحملات تشويه ظالمة، ومحاولات من القوى الفاشلة للتنصل من مسؤولياتها بتحميل الخطاب الديني أوزار معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، وإنما قصدت الدفاع عن هذه المؤسسات بطريقة نقدية تسلط الضوء على بعض فصول الأزمة التي تم إيقاعها فيها على نحو أدى إلى تقلص الدور المطلوب منها، فهي دعوة لتحرير هذه المؤسسات -أسوة بالمؤسسات الدينية غير الإسلامية- ومنحها حريتها واستقلالها وأوقافها؛ كي تستطيع أن تقدم خطابا يعكس صحيح الدين ومصالح الأمة التي عبر عنها القرآن والسنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.