شعار قسم مدونات

قبرٌ وراقصة

blogs - grave

المقابر، تلك البقعة التي كانت وستظل لها رهبة في كل قلب. ففي الطفولة، كنا إذا اقتربنا منها، هالنا منظر القبور المتراصة واحدًا تلو الآخر، وأثار صمتها المطبق في نفوسنا الرعب الشديد. كلما بدت أمام أنظارنا، نتخيل الأشباح التي تقطن هناك ترمقنا، ونعتقد أنها ستطاردنا إن اقتربنا أكثر!، فنبتعد عنها قدر المستطاع، ولكننا نظل طوال اليوم خائفين من اقترابنا منها، حتى إذا طوانا الليل تظل الأشباح تطاردنا في أحلامنا.

 

أما عندما كبرنا وأدركنا حقيقة الموت، أصبح للمقابر هيبة أخرى؛ صار وقعها في النفس أعمق وأشد، كلما مررنا جوارها، أو شيَّعنا جنازة إلى حفرة من حفرها -ذلك المكان الضيق المظلم المخيف- يقشعر البدن من الرهبة، نفكر في الغد الذي لا مناص منه؛ عندما نصبح جثة هامدة لا تمتلك أي قدرة على فعل شيء!، نتخيل أنفسنا نُقذف إليها، نقيم تحت التراب، حيث لا رفيق إلا الظلام!

 

الدنيا! ما نلبث نخرج إليها، فتغوينا بفتنها ومتاعها، تلهينا فنتناسى، حتى إذا نادى منادٍ بموتٍ أحدهم، شاهدنا الحفرة، وهالنا الأمر، ثم تُعاد الكرَّة، ونظل في تلك الدائرة ندعو الله عز وجلّ أن يرزقنا حُسن الخاتمة.

سيتناسانا الزمان، ويتناسانا الأحبة، ونصبح ذكرى في تلافيف عقول، بعد غد ستجاورنا! فنتذكر أفعالنا وأخطاءنا ونستحي من الله عز وجل كل الحياء، ونخرج من هناك وقد تجدد الإيمان في قلوبنا، غاضين البصر، عازمين على العمل، متقربين إلى الله بشتى الطرق، تتردد في آذاننا في كل لحظة كلمة الرجل وهو يعيد الوديعة إلى باريها "لمثل هذا فليعمل العاملون"

 

تقفز في أذهاننا الصورة، فنقاوم النفس إن دفعتنا إلى خطأ، ونكثر في عراكنا معها. ولكنّها الدنيا! ما نلبث نخرج إليها، فتغوينا بفتنها ومتاعها، تلهينا فنتناسى، حتى إذا نادى منادٍ بموتٍ أحدهم، شاهدنا الحفرة، وهالنا الأمر، ثم تُعاد الكرَّة، ونظل في تلك الدائرة ندعو الله عز وجلّ أن يرزقنا حُسن الخاتمة.

 

ولكنني لم أستطع أن أمرر ما رأيته في ذلك اليوم ليلاً؛ ذلك المقهى الواسع أمام مدخل المقابر، حيث يجلس على الكراسي شيوخ وكهول وشباب لا عمل لهم إلا استهلاك عمرهم، وقتل صحتهم. كبار ساخطون من الحياة ويسبونها على ظلمها لهم، وعدم مجازاتها لهم على ما قدموا فيها، غير أنهم لم يفكروا في حياتهم الحقّة التي لم تبدأ بعد؛ حياة الخلود التي يضيعونها ولا يبصرون مدخلها الذي بجوارهم، الذي نادى عليهم بكل صوت صامت "اتَّعظوا" ولكنَّ أذنًا لم تصغِ!

 

صغارٌ يضيعون فرصهم فيها، غرّهم الأمل والقوة، وفرحوا بلذة العبث، فعاشوا الحياة غير مبالين بشيء، إلا لذة المتعة، ينفقون أموالهم على تدمير أجسادهم، وأوقاتهم في تدمير حياتهم، ولا يبالون بجنازة حينما مرَّتْ نادى المنادي "فقيد الشباب"..

وقد جمع الكبار والصغار ذلك المشهد المقزز، تلك الشاشة الكبيرة التي تعرض حفلات الرقص الماجن، والعيون ترمق مستمتعة، برغم القبور التي على يسارهم، إلا أن الراقصة قد رقصت فقتلت في قلوبهم كل اتَّعاظٍ بالموت، فقد رقصت على القبر!

 

لم أستطع أن أتخيل أنه مهما توالت النكبات، وكثرت أخبار الموت، أنّ القلوب قد تقسو إلى هذه الدرجة، قد لا تتأثر بالقبور في ظلام الليل بصمتها المهيب! وحقيقتها المرعبة.. الموت! فإن كانت الرهبة من الموت قد عُدمت لكثرة مشاهدته، فما حدث للرجل العربي الشريف، صاحب النخوة والشرف؟! ألم يعد عنده حياء من الناس ولا نخوة في القلب؟!، وإن كان كل ذلك وقع، فهل لم تعد هناك خشية من الله عز وجل؟! فرَّ في ذهني مباشرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت".

 

كنت أعتقد أن ما طرأ على الحياة في زماننا قد غيّر كلّ المفاهيم، فقد غاب العدل، وانعدم الصدق، وقُتلت الأمانة، وانقلب الحق باطلاً، والباطل حق! حتى أصبحت النفوس التي تحمل كل خُصلة حميدة غريبة بين الناس، لكن لم أتخيل أبدًا -مهما تملكني اليأس- أن رهبة الموت قد تختفي من أي نفس، وإن غابت فبالطبع لن تموت رهبة النظر إلى حُفرة الأبدية!

 

فالموت هو الحقيقة الأكثر ثبوتًا في الحياة، فكما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى في بردته الشهيرة:

كُلُّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامتُهُ ..
يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ

 

إن حياةً يقضيها المرء ساعيًا خلف شهواته، متغافلاً عن دوره فيها، لا يقدم لذلك العالم ما يفيد، فهي حياة لا تستحق، بل هي أشبه بالحياة البهيمية التي تقوم على الطعام والشراب والتكاثر.

إن الحياة قصيرة مهما طالت، وإن امتلأت بالتجارب، واحتدمت بالمشاعر، نهايتها واحدة ولا تبديل في ذلك، فالموت هو الموت، مهما اختلفت أسبابه، والدنيا هي الدنيا، مهما كثرت نِعَمُها، وتعدَّدت وسائل المتعة بها، تظل دانية فانية لا أبدية فيها، ولا خُلقت فيها سعادة إلا وكانت مصحوبة بالكدر. ولا راحة إلا سيصحبها شقاء.
وهكذا نبَّه "أبو البقاء الرندي" في مرثيته الشهيرة واصفًا حال الدنيا:

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ ..
فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ

حياة المرء كأي طريق، مهما اختلفت سيكون لها بداية ونهاية، وما بينهما إما أن يكون عُمراً يستحق، أو عبثاً كان فاعله عبئاً على هذه الدنيا، حتى لو ابتعدنا عن حقيقة الحياة الآخرة والمساءلة عن الوقت الذي نقضيه في حياتنا القصيرة، وما يحمله ذلك من الثواب والعقاب، فإن حياةً يقضيها المرء ساعيًا خلف شهواته، متغافلاً عن دوره فيها، وعمَّا وهبه الله من عقل ميَّزه به عن سائر المخلوقات لا يقدم لذلك العالم ما يفيد، فهي حياة لا تستحق، بل هي أشبه بالحياة البهيمية التي تقوم على الطعام والشراب والتكاثر.
وختامًا أقول:
 

وكانَ القبرُ إن يلقاهُ قومٌ ..
يعودوا تائبين من العظاتِ

يلنْ قلب القُساةِ لهولِ خطبٍ ..
حقيقٍ بعدِ طولِ العمرِ آتِ 

فمالي اليومَ ألقى القومَ صاروا ..
على بابِ القبورِ من العُصاةِ !

كأنَّ قلوبَهم بالكِبرِ أضحتْ ..
صُخورًا لم تخفْ يومْ المماتِ

تراهمْ راكبينَ الفُحشَ فرْحًا ..
وما احتشموا بفعلِ الموبقاتِ

فعاشوا كالوحوشِ بها غُثاءً ..
فهل من عودةٍ نحوَ النجاةِ؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.