شعار قسم مدونات

رواية منسي للطيب صالح عمل فني نادر على طريقته

blogs - مكتبة
ابتدر الطيب صالح عبقري الرواية العربية بناء رواية "منسي" بطريقة غير مألوفة، فالموت دائما هو نهاية كل شيء، ولكنه بدأ روايته بنص يعلن فيه وفاة البطل حيث بدأ بما يُنتهى به، وذلك قمة الإبداع، فما الإبداع إلا الانتقال من المألوف إلى اللا مألوف "في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهماً بموازين الدنيا، ولكنه كان مهماً في عرف ناس قليلين، مثلي، قبلوه على عواهنه، وأحبوه على علاته. رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثباً، وشغل مساحة أكبر مما كان متاحاً له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه، ضوضاء عظيمة".

ولئن أدهشت رواية موسم الهجرة إلى الشمال، النقاد العرب، فوسموا الطيب صالح بعبقري الرواية العربية، وهو لقب جدير به وزيادة، فإن رواية منسي صب فيها عصارة تجاربه في الكتابة وفنونها، وهي رواية متفردة في لغتها حيث تتسم بالعذوبة والوهج والشاعرية والتفرد والثراء والإيحاء، هذه الصفات اللغوية الخلاقة تؤكد على أن الطيب صالح يمتلك طاقة تعبيرية وتصويرية هائلة، تنم عن كاتب متمكن من أدواته الفنية تماماً، وعن تجربة وخبرة تراكمية في الكتابة.

منسي رواية تمسك بتلابيبك عند قراءتها، ففي كل مرة أقرؤها لم أطلق سراحها إلا بعد أن أتى على آخرها لما أجد فيها من متعة ولذة وفائدة عظيمة. فعندما تقرأ تلك الرواية تشعر بأنك أمام مثقف عظيم، بل أمام موسوعة ثقافية هائلة حشد فيها الكاتب معلومات وأفكار نادرة في تلقائية تامة، فهي رواية تحكي سيرة ذاتية وغيرية في أسلوب بديع، وحنكة بالغة في امتلاك تقنيات الكتابة والسرد الروائي، وقدرة فذة على الحكي في دقة متناهية، وإدهاش بالغ.

اتضحت لي في منسي مواهب دبلوماسية لم أعهدها فيه من قبل، ولكنها كانت مثل كل مواهبه، شيئاً فوضوياً ليس له ضابط ولا رابط تحتاج إلى شخص ربما مثلي، يكبح جماحها.

كما أن للطيب صالح قدرة لا تضاهى في توصيف شخصياته، فانظر إليه وهو يصف وجه منسي في براعة بالغة "كان وجهه صبيحاً يميل إلى الاستدارة تزحمه عينان واسعتان وقحتان يركزهما على محدثه طول الوقت، دون أن يطرف له جفن. وكانت تلك حيلة نعرفها عنه، فكنا نعابثه بوسائل شتى، وكان سريع الضحك، فلا يلبث وجهه أن يتكشر بضحك طفولي".

ويصف لنا الكاتب الكبير "ساميول بكت" قائلا: "ماذا وجد سامويل بكت في منسي؟ إنه يبدو كأنه على طرف نقيض منه. فهذا رجل مترهب قضى حياته يحدق في أغوار ذاته، ويعاني أوجاعاً روحية وعقلية مفرطة. كل ذلك يظهر في وجهه الغريب، الحاد التقاطيع، المليء بالأخاديد، كأن الزمن حفر عليه بمعول. العينان اللامعتان، نظراتهما مركزة، فيهما خليط من التحدي والذعر، كأنه يحدق في شيء مهول لا يراه أحد غيره".

ومنسي ذلك النوع من الشخصيات التي تستطيع كسر الحواجز بينها وبين الآخر مهما كان ذلك الآخر، وتخلق علاقة معه في سرعة متناهية، فهو يمتلك جرأة منقطعة النظير في الاقتحام. "كان جريئا يقتحم الناس اقتحاماً ويرفع الكلفة فوراً كأنه يعرف الشخص منذ زمن، وكأن هذا الشخص مهما علا شأنه دون مرتبة. رافقني إلى حفل تخرجي من الجامعة، فقابل لأول مرة سفيراً عربياً، وزوجته كانا من أسرة حاكمة. انشغلت عنه فترة ولما عدت إليه، وجدته قد أوقف الرجل وزوجته، ووقف هو بينهما، يضرب الرجل على كتفه مرة، ويضرب السيدة على كتفها مرة، ويقول وهو يقهقه بالضحك:

آه. اتكلموا كمان والله لهجتكم ظريفة جداً.
جررته عنهما وقلت له:
أنت مجنون؟ ألا تعرف من هؤلاء؟
حيكونوا مين يعنى؟
ولما أفهمته، قال:
وإيه يعني؟
كانت الوقاحة تنفعه أحياناً وتضره أحياناً، ولكنها كانت تسعفه مع النساء في الغالب".

النقاد دائما يركزون على رواية موسم الهجرة إلى الشمال التي حجبت رواياته الأخرى ذات الإبداع والإمتاع، ولكن للطيب صالح روايات أخرى في غاية الإبداع والإمتاع.

مواقف منسي تجعلك تستغرق في الضحك وأنت تقرأ الرواية، وأحياناً تمتعض أيما امتعاض، وتارة تشعر بنشوة بالغة تنسى معها من حولك مستغرقاً مع تلك اللغة الناصعة الغضة، التي تثري شعرية السرد.

بالرغم من أن الطيب صالح لم يأخذ منسي مأخذ الجد إلا أنه من خلال الأحداث يبدو لنا أنه يمتلك مواهب متعددة، وذكاء ودهاء غير عاديين، فهو إنسان نادر على طريقته. "اتضحت لي في منسي مواهب دبلوماسية لم أعهدها فيه من قبل، ولكنها كانت مثل كل مواهبه، شيئاً فوضوياً ليس له ضابط ولا رابط تحتاج إلى شخص ربما مثلي، يكبح جماحها ويوجهها الوجهة الصحيحة. حينئذ تتحول إلى طاقة مبدعة بحق".

يعد الطيب صالح علامة فارقة في الرواية العربية، وقد نال حظه من العالمية حيث ترجمت روايته موسم الهجرة إلى أكثر من ثلاثين لغة، والنقاد دائما يركزون عند الحديث عنه على رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي حجبت رواياته الأخرى ذات الإبداع والإمتاع. صحيح أن لكل كاتب مبدع عمل كبير يتفرد ويشتهر به، ويخلده على المستوى الفني والثقافي والإبداعي، ولكن للطيب صالح روايات أخرى في غاية الإبداع والإمتاع كرواية "منسي إنسان نادر على طريقته"، وهي تمثل الرواية السيرة: (ذاتية وغيرية) يحكي فيها سيرة الراوي والمروي عنه في غاية الذكاء، فالراوي شخصيته متزنة ومثقفة ومتواضعة، والمروي عنه شخص (بلطجي) كما يطلق عليه الراوي لا يمكن الإمساك به، غريب الأطوار جريء جرأة تصل إلى حد المغامرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.