شعار قسم مدونات

الوطن المستحق

مدونات، الوطن

الإنسان الذي لا يشبع مطالب بإيجاد طريقة أخرى يُسكت من خلالها جوعه الذي يلازمه كمرض عضال لا شفاء منه إلا بالهجرة أو الهروب من أرض مشوّهة بمشاهد الجوع والخوف من الضياع في غياهب المكان والزمن. وتتدرج تلك المشاهد بانحدارها في رسم بيان البشاعة والألم حتى تصل أن تختنق بغاز الساريين وأنت تتنفس موتك شهقة بعد شهقة، وعينان يجولان في المحيط يراقبان عجز من حولها، إنها المسافة بين جغرافيتك التي تركها لك الأجداد بعدما سقوها بالدماء والصبر، وبين الخلاص الذي ينتظر في الضفة الأخرى.

إنها المسافة التي تجعلك تغادر أرضا -تسمى مجازا وطن- راكبا أشرعة الموت المتهالكة، والأكثر قساوة أن تدفع مئات الدولارات ثمنا لموتك الذي ينتظرك في موجة تتأرجح في وسط البحر، أو رصاصة تأتيك وأنت تهمّ لتطوي صفحة الوطن وتستبدله ببطاقة تعرف فيها أنك لاجئ ، هرب من الموت الذي يلاحقك في حارات وأزقة الوطن، وما بقي من هذه المسافة هي الذاكرة التي تنزف كلما نزف الوطن، وتبكي كلما ارتمى الوطن في مخالب الاستبداد والظلم، الذاكرة التي تظل مسافرة بين الذكرى، ومدامع الوطن، ومكان الإقامة الجبرية تعزز آلامها وتنكء جراحها وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي.

دائما ما يكسب العقل الرهان؛ لأنه الواقع، والواقع أن وطني لم يكن يوما وطن بل قبرا تولد فيه وتموت فيه دون أن تشعر بالحياة أو تسعد بمتاعها

لم يعد الانسلاخ من الهوية ممكنا والهروب من الموت والخوف متاحا، بل انك مقيدا دائماً بذلك السبب الذي هربت منه على الرغم من أنك لست في مجال تأثيره، لأن جميع العوامل والبواعث التي تبعث في داخلك الألم والعذاب والحرقة -أصدقاءك، أهلك، أبناء مجتمعك- مازالت هناك ترقد بين مخالب الموت والجوع، تموت كل يوم بموت حلم أو بانطفاء شمس دون أن تبعث أملا لغد كريم ربما لن يكون من نصيبها الموت لمرة واحدة وإنما السقوط جزءا جزءا، وتلملم أجزاءها بانتظار الموت الأخير الذي سيأتي ويأخذ كل هذه الأجزاء التي تنتظر جنازة مشرفة قد لا تحضى بها في ظل مشاهد الموت المتكررة.

ما زلت أبحث في داخلي عن تعريف للوطن، ما هو الوطن؟ وكيف يجب أن يكون شكله؟ أريد أن أضع حدا لهذا الصراع الداخلي بين أرض الوطن ومكان اللجوء، وطن اشتاق إليه، وتهزني عواطف الحنين والذكرى إلى حاراته وبساتينه وأنهاره، لكن عقلي يمنعني من العودة إليه، هل قضيتي تشبه قضايا الحب التي تدور رحاها بين العقل والقلب؟

دائما ما يكسب العقل الرهان؛ لأنه الواقع، والواقع أن وطني لم يكن يوما وطن بل قبرا تولد فيه وتموت فيه دون أن تشعر بالحياة أو تسعد بمتاعها، فالوطن ليس الأرض ولا الجغرافية ولا المناخ، إنما هو الذي يلبي مقومات الحياة لمواطنه من مأكل ومشرب وصحة وتعليم ورفاهية، ويحفظ له حياة حرة وكريمة وحقوق كاملة. هنا فقط تبدأ علاقة تناظرية طرف فيها هو الوطن والطرف الأخر المواطن، وأي خلل سيخل بالتوازن ويلغي هذه العلاقة كي تصبح شعارا أجوفا يطير مع أول هبوب للرياح، أوجدت اوطاننا هكذا؟ بينما ولدت الدول الأخرى التي نلجأ فيها جنان وهل هذه الاقدار أبدية أم إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر؟

الحياة التي تطوي في كتابها فصول الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والعدل والتنمية وتوزيع الثروات هذه هي الحياة التي سلبونا إياها المستبدون، والطغاة ومن يسيرهم ويمدهم بالقوة والسلاح لإبقائنا في مزارع الطاعة والانقياد. الحياة تعني استعادة الوطن، ولن تكفي قوافل الشهداء وسيول الدماء من أجل استعادة الوطن، إن لم نكن وطنيين نضحي ونعرق ونسقي جوع الوطن، فالأوطان لا تبنَ بالحظ والأناشيد والأمنيات؛ إنما بالعدل والعلم والجهد والعمل، فلنتحسس دواخلنا ونتسأل بصدق.

هل نحن وطنيون، هل الوطن قادر على أن يجعلنا وطنيين، وفي كلتا الحالتين سنفشل بالاختبار؛ لأننا غير قادرين على التخلي عن الأنا من أجل التضحية لهذا الذي يسمى وطن، وحتى أولئك الذين بقوا في جبهات المواجهة والمقاومة هم وحدات مقاتلة تخضع لتأثير أيديولوجي تؤمن به لوحدها، وتفكر في أن تجر الجميع للإيمان بما تعتقده أو تجد ملصقات جاهزة لكل من يخرج عن هذا الإيمان ؛ فهي بالنهاية لا تقدم أو تعطي تعريفا للوطن كالذي نعرفه، وستفضي إلى صراع حتمي بين القوى الوطنية، وتلك القوى الإسلامية المتشددة التي لا تؤمن بالديمقراطية والوطن والمواطنة.

أن نكون وطنيين، وننمي في دواخلنا الانتماء للوطن؛ هذا يعني أن نجد وطننا يحتوينا ونحتويه بعاطفة الحب وبسواعد العمل والكفاح، وإلا سنجد أنفسنا نعبر مسافات الألم ومسافات الهروب، وأعواد المشانق وسواطير التشبيح إلى أرض أخرى

ومن هنا تجد القوى المناهضة للثورة زقاق لتعبر من خلاله لاسترداد مكانتها، وثروتها التي سلبته إياها الثورة، وقد نجحت في جميع دول الربيع العربي التي أسقطت طغاتها، ونجحت في تأخير الربيع وأفشلت تشكل الهوية الوطنية الموحدة. ولا تزال صورة هذه الأوطان مشوّهة في أعين ساكنيها، وتبحث عن خلاص، فليست الأهمية في أن نُسقط طاغية لنكون نحن الطغاة، ونفرض واقع القوة والسلاح؛ بل أن نكون وطنيين لنجد في النهاية وطنا يجمعنا جميعا، وليس مرفأ لتصدير اللاجئين في مراكب الموت.

ويبقى هناك في أرض الوطن أولئك المنكسرون المحطمون معطوبو الأحلام والأمنيات يصارعون لقمة البقاء على أرصفة الجوع المتربة، أو مجالس المقاهي المتعبة، أولئك الذين لا يملكون الخيار ولا يجرؤن على امتلاكه، ولا ينتظرون سوى منحة طاغية تجلب لهم فرحا وهميا يسرقونه على غفلة.

ولا يزال الوطن الذي أرهقه الفساد والتخلف والجهل والظلم غير قادر أن يجعلنا وطنيين، أو يسبقنا بخطوة؛ ليجبرنا أن نعدو خلفه، ونقف صفا واحدا في الدفاع عنه، والحفاظ على مكسب الحرية والعدالة والتنمية، فالخير لا ينتصر دائما، والشّر الذي يعتبر أقلية، دائما ما يجد الفرصة في الانقضاض على مكاسب الشعوب، ونهب ثرواتها إذا ما تراخى الشعب أو تناقص خط بيان الوطنية، والانقلاب في تركية مثال جدي في أن الوطن مهدد في أي لحظة للسرقة من قبل أولئك الذين يقدمون المصالح الشخصية ويتبنون الرؤى الضيقة مقابل الوطنية.

أن نكون وطنيين، وننمي في دواخلنا الانتماء للوطن؛ هذا يعني أن نجد وطننا يحتوينا ونحتويه بعاطفة الحب وبسواعد العمل والكفاح، وإلا سنجد أنفسنا نعبر مسافات الألم ومسافات الهروب، وأعواد المشانق وسواطير التشبيح إلى أرض أخرى، أسمى ما نحصل عليه هي مرتبة لاجئ، ولا يبقى لنا من ذلك الوطن سوى  اعتصارات العاطفة المنطوية في الشوق والحنين التي ستتلبد فوقها غيوم الازدحامات المرورية في تقاطعات ذكريات الماضي وطموحات المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.