شعار قسم مدونات

الـسيطرة المفقودة ومزالق الخيار العسكري في شبه الجزيرة الكورية

blogs-north korea
إن واحدة من أهم السمات المميزة للموقف الاستراتيجي الدولي الراهن هي السيطرة المفقودة، في خضم التأثير القوي للعقيدة العسكرية على توجهات السياسة الخارجية وتفاعلاتها. مع تزايد مؤشرات الصدام المحتمل في مسار العلاقات المشحونة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، تظهر معطيات واقعية تفرض على اللاعبين الدوليين الانتباه إلى أن العالم أصبح متعولماً، يعتمد بعضه على بعض، ولا مجال فيه للانفراد المطلق بتوجيه التفاعلات الكونية، فقد تغيرت دوال القوة العالمية على نحو كبير، ولم يعد في وسع دولة بمفردها أن تُهيمن على مسرح الأحداث العالمية.

وقد رأينا الولايات المتحدة خلال هذين العقدين تؤسس تحالفاً دولياً وتستنفر له حلفائها وأصدقائها لاسترداد ثقتها بنفسها، عندما شنّت حربين على أفغانستان والعراق، بهدف فرض الاستقرار والحفاظ على الأمن العالمي. ولكنه الأمر الذي لم يتحقق بأي شكل، بل ازداد ثقل مفرزات الاضطراب وعدم الانضباط في الحسابات الاستراتيجية، والتي ترتّبت على فشل سياسة الحرب العسكرية في الوقت الذي لم تعد فيه القوة العسكرية هي المبدأ الوحيد للتحكم في قواعد اللعبة الدولية.

فشل الرهان الأمريكي على قدرة الصين في إقناع صديقتها كوريا الشمالية بالتخلي عن مشاريعها التسليحية المثيرة للقلق الدولي، واعتقدت واشنطن أن موقف روسيا حتى اللحظة لا يبدو داعماً لها.

هناك سبب جوهري يفرض إعادة تقييم شامل للضرورات الأمنية التي تكتسب مكانة محورية في نسق العلاقات الدولية، وفي صياغة الذهنية الاستراتيجية للقوى الكبرى، فعندما يرتبط الوضع بمسائل الأمن المتقابل، يصبح الاحتراز هو سيد الموقف، إذ يُقيّم كل طرف درجة التهديدات التي يتعرض لها بناء على قدرات الخصم، وبذلك يتهيأ كل الأطراف للتعامل مع الاحتمال الأسوأ، ولدينا تجارب تاريخية كافية لفهم هذا السياق، إذا ما عدنا إلى تحليل السياسة الدولية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وخلال الحرب الباردة، واللواتي اندلعن نتيجة التناقضات في توازنات القوى، وتولّدت دينامياتها من خلال الاستقطابات القائمة وقتذاك، حيث أنه لم يكن يتوفر لدى اللاعبين الدوليين فرصة صياغة موائمة بين الخيارات الدبلوماسية والاستراتيجيات العسكرية.

ولذا فإن المعضلة لا تتمثل في السيطرة فحسب، إنما الاستجابة أيضاً، والقدرة على المبادرة في مناخ تعتليه الأزمات الطارئة، وهي مسألة تتعلق بالخيارات ذات الأولوية العظمى للأمم. بيد أن أكبر نقاط الضعف التي تشوب هذا الموقف تتمثل في تركيزه أساساً على التقديرات الرشيدة لصانعي القرار، وهي تقديرات مثالية نادرة ما تتحقق.

لقد أوردنا التقديم أعلاه، بغية صياغة مفردات يمكن من خلالها الوصول إلى تقييمات منطقية للموقف الراهن في البيئة الأمنية في شرق آسيا، التي تعتبر أكثر المناطق دينامية في الاقتصاد العالمي، وما يعنيه ذلك بالنسبة لواشنطن، مع وجود قوى جبارة كالصين واليابان، وتأثيرهما في السياسات الاستراتيجية العالمية، وفي حال تمكنّا من فهم هذا السياق فإننا سوف نعي حقيقة الهواجس الأمريكية من تنامي مشكلة كوريا الشمالية في تلك المنطقة ذات الحساسية الكبيرة.

لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نوازن بين القدرات الاستراتيجية والتكتيكية لطرفي المعضلة تلك، ولسنا بصدد وضع مقارنة لما تستطيع أن تفعله كوريا الشمالية أمام الترسانة المهولة لدى أمريكا، ولكن الأمور لا تقاس دائما على هذا النحو، في حال دخلت على خط الأزمة مفاعيل لها علاقة قوية بتحديد السيناريوهات المستقبلية لحقبة ما بعد الحروب.

خلال الأسابيع المنصرمة، أعطت إدارة ترمب الضوء الأخضر لتنفيذ ضربات عسكرية في سوريا، كردة فعل على استخدام النظام السوري أسلحة كيماوية في بلدة خان شيخون، وقد ارتفعت سقوف الآمال حول التغير النوعي في رؤية ترمب حول سوريا، ولكن هذا لا يدفع بالضرورة نحو التفاؤل بإمكانية أن تنتهي الحرب في سوريا قريباً، وغاية هذا التحرك كان تحذيراً استراتيجياً للأنظمة المارقة التي تدور حولها المعادلة السياسية العالمية، مفاده بأن الولايات المتحدة قد تجاوزت سياسة الصبر الاستراتيجي لصالح إثبات رباطة جأش أمريكا أولاً، وهذا ما يتضمن بالمحصلة بأن أمريكا لا يمكن اختبار قوتها ولا يمكن التنبؤ بأفعالها.

يمكن لواشنطن القول بأن النظام في كوريا الشمالية لا يكترث للمجتمع الدولي، ولا يريد تقويم سلوكياته المستفزة للعالم، عبر المضي قدماً بتنفيذ التجارب الصاروخية النووية وتهديد جارتيه كوريا الجنوبية واليابان، وهما حليفتان مقربتان من واشنطن، لا يمكن لها أن تتخلى عنهما، كما أن واشنطن يمكنها التأكيد على أن نظام العقوبات ضد كوريا الشمالية لم يحقق نتيجته المنطقية المنشودة، كما أن الصين بحسب تصريحات الرئيس ترمب لا تمتلك أوراق ضغط قوية على النظام في كوريا الشمالية.

ولهذا فإن المقولة السائدة في الأوساط السياسية والاستراتيجية الأمريكية تقضي بأن أمريكا فشلت في ترويض نظام كوريا الشمالية ولم تنجح في ثنيه عن مشروعاته النووية، ولذا نصح الكثير منهم الرئيس ترمب بتوجيه ضربات استباقية ضد المنشآت النووية الكورية الشمالية، في محاولة لتأكيد حجم التهديد الذي يمثله النظام الحاكم هناك. ويضاف إلى ذلك، أن لدى الأمريكيين مخاوف منشأها إقدام نظام كوريا الشمالية على غزو الجزء الجنوبي، وضمه تحت رايته، وهنا سوف يكون الخيار النووي لدى كوريا الشمالية رادعاً ناجعاً في تحقيق تلك الغاية.

علينا أن لا نقبل بفكرة أن الصين يمكن لها أن تعمد إلى الوقوف في وجه الولايات المتحدة لمنعها من التحرك عسكرياً ضد كوريا الشمالية، لا سيما إذا كانت روسيا ستنأى بنفسها عن الانخراط المباشر.

فشل الرهان الأمريكي على قدرة الصين في إقناع صديقتها كوريا الشمالية بالتخلي عن مشاريعها التسليحية المثيرة للقلق الدولي، واعتقدت واشنطن أن موقف روسيا حتى اللحظة لا يبدو داعماً لها، وذلك أن روسيا حذرت إدارة ترمب من اللجوء إلى تنفيذ خيارات عسكرية أحادية الجانب ضد كوريا الشمالية، لأنه سوف يكرر أخطاء سياسية بالغة الخطورة.

تبدو الصين وروسيا محبطتان واقعياً على الرغم من امتلاكهما لعدد من الأوراق، لأن الحكم يدور حول تحديد الأولويات، فالمشكلة في شبه الجزيرة الكورية لا تكمن في وضع حد للتحديات الاستراتيجية التي يمثلها نظام الشمال، وإن كانت ذات أهمية جدية، ولكن الذي يتجلّى في تفكير القيادة الصينية والروسية هو الشكل الذي ستكون عليه كوريا الشمالية في حال انزلقت أمريكا في حرب للتخلص من النظام الشمالي، وأقدمت بعد ذلك على صياغة معادلة جديدة لا تراعي المخاوف الجيواستراتيجية الكامنة وراء توحيد شبه الجزيرة الكورية، وهي التي سوف تمثل بالضرورة عازلاً استراتيجياً خطيراً ليس أمام الصين فحسب، إنما لروسيا واليابان أيضاً.

وبكل بساطة علينا أن لا نقبل بفكرة أن الصين يمكن لها أن تعمد إلى الوقوف في وجه الولايات المتحدة لمنعها من التحرك عسكرياً ضد كوريا الشمالية، لا سيما إذا كانت روسيا ستنأى بنفسها عن الانخراط المباشر، ولكن ذلك لا يعني أن تتجاهل واشنطن سبل التفاهم الجدي مع هاتين القوتين الكبيرتين، وفي هذا الإطار تشير المعلومات إلى أن موسكو وبكين فاتحت بيونغ يانغ بالأمر ونبهتها إلى مغبة الاستمرار في سياستها الصدامية.

ليس بالضرورة التوكيد على أن سيناريو العمل العسكري، على الطريقة الأمريكية، لن يستطيع الإطاحة بنظام ذو طابع غريب، لديه من الأساليب ما يمكنه من البقاء في السلطة برغم الصعوبات الجمّة التي تعرض لها طويلاً، ولا يفوتنا بالطبع أن نشير إلى انعدام التقييمات العسكرية الصحيحة للقدرات النوعية التي تملكها كوريا الشمالية، والتي سوف تعتمد عليها في إمكانية الرد العنيف ضد تحالفات ومصالح أمريكا، وبالتالي فإن إيقاع هزيمة سريعة وساحقة للنظام الشمالي لن يكون تأمينه سهلاً، وقد يؤدي صعوبة تحقيق ذلك الهدف إلى حقبة طويلة من الاضطراب، وباهظة التكاليف من العنف وفقدان الأمن والاستقرار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.