شعار قسم مدونات

نحن والثقافة

blogs - books
الثقافة تحكم هوية الأفراد وتصوراتهم ووعيهم، وتوجههم في منطلقات محددة. وهي تتشكل من نسيج متكامل يتداخل فيه الدين وتصوراته كجزء يغلفها ويصبغها بلون خاص، والتصورات الفردية والأحكام المسبقة للمجتمع وما يحيط به من مظاهر الحياة، واللغة وما تحتويه من مصطلحات ودواوين وتراث. هذه الوحدات مجتمعة، الدين والخلفيات واللغة، تكون في العادة الوعي الثقافي للمجتمعات الإنسانية. وبهذه الوحدات تضع الثقافة بصمتها على كل فرد من أفراد مجتمعها، وتتجذر في أعماقه وتسكن في أركانه.

تجديد النسيج الثقافي
هذا النسيج الثقافي معرض، من حين لآخر، للاهتراء والتشقق، ويكتسي على فترات بنسيج جديد متماسك وقوي. فالحالة الثقافية ليست ثابتة، وإنما تتبدل وتتغير مع الوقت، وتتقلب على مدار الزمان. والعجلة الثقافية تدور بطريقة مستمرة ودائمة بين طلوع ونزول، مسموح وممنوع، مستهجن ومتعارف عليه. وبنظرة على أشكال العمران، ومرورًا على مصطلحات اللغة، يظهر ذلك التقلب الثقافي جليًا من جيل لآخر. فأشكال البيوت وتصاميمها الداخلية تبدلت، وتراكيب اللغة ومصطلحاتها وما ترمز إليه تغيرت، بفعل الجيل الجديد. فهو الذي يشكل في كل مرة ثقافة مختلفة عن سابقه، تطبع نفسها في سلوكه وسلوك من حوله، وتصبح مسيطرة عليه مع الوقت، إلى أن يأتي الجيل الذي يليه، فيبدأ بنقد هذه الثقافة بثقافة جديدة، ويستمر الأمر هكذا دواليك.

المجتمع الذي تحكمه تصورات متجذرة، أعطاها الدين رباطا عقديًا وروحيًا، واستخدمتها السياسة لأغراضها، لن يفرط في أفكاره المكتسبة بسهولة. بل هو في أتم استعداد للقتال من أجلها.

إلا أن هنالك قوالب ثقافية عصية على التغيير، وذلك لأن تجديدها يصطدم بوحداتها الأساسية، الدين أوالخلفيات أواللغة، أو بها جميعًا. وهذا ما يجعل أمر تجديدها صعبًا، وفي بعض الأحيان قاتلًا. وخاصة أنه يبدأ في العادة من أفراد، أو مجموعة من الأفراد، أصحاب رؤية مختلفة وتصور جديد لثقافة مستقلة ومعزولة عن الوعي الثقافي السائد. وبقوة تأثير هؤلاء الأفراد على الآخرين تبدأ أفكارهم، إن كتب لها القبول، في البلورة وتصبح أكثر إلتصاقًا بواقع الناس. وهذا ما يهيء شرائح أكثر لتبنيها والعمل بها. 

وخير مثال على ذلك دعوة الأنبياء التي تبدأ من فرد وحيد في قومه – النبي صاحب الرسالة المختلفة عن واقع مجتمعه – والذي يحاول توسيع رقعة دعوته لتمتد عبر الأفراد إلى شرائح جديدة من الناس. لتبدأ بعدها الشرارة التي تحدث الصراع الثقافي في المجتمع. والذي على إثره يقاوم المجتمع الفكرة الناشئة ويحاول أن يقمعها في مهدها لخوفه على أفكاره المكتسبة، (أخرجوا آل لوط من قريتكم)، (لإن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين). وذلك بحجج كثيرة، منها (إنا وجدنا آبائنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون).

ثقافة الأمر الواقع
فالمجتمع الذي تحكمه تصورات متجذرة، أعطاها الدين رباطا عقديًا وروحيًا، واستخدمتها السياسة لأغراضها، لن يفرط في أفكاره المكتسبة بسهولة. بل هو في أتم استعداد للقتال من أجلها إن اضطر الأمر. ومن هنا تأتي مشكلة الأفكار الاجتماعية الجديدة، ففي الوقت الذي يحمل فيه المصلح شعلة، يلتف حوله ألف شخص ليطفئها. وكمثال من تاريخنا الإسلامي، ضربت الخلافة الراشدة مثلًا ملهمًا لكيفية تداول الحكم سلميًا بطريقة مستحدثة جديدة لم تعتدها البشرية من قبل. فهي لم تكن تقليدية، لا ملكية ولا دكتاتورية، وإنما شورية على منهاج النبوة.

ومع أن التجربة كانت حديثة عهد بالنبوة. ومع أن الفرصة كانت أمامها مهيئة للاستمرار، وبالتالي فتح طريق جديد للبشرية في تطوير نظرية الحكم، إلا أنه بعد انتهاء حقبة الخلافة الراشدة التي استمرت 40 سنة من عمر صدر الإسلام، عاد مفهوم الحكم إلى الطريقة التقليدية الموروثة، وزاد الأمر تعقيدًا عندما اتحد الحكم الموروث مع فكرة الخلافة، ليصبح الملك أو الإمبراطور خليفة الله في الأرض! وهنا تتأصل المشكلة ثقافيًا، عندما يتحد الموروث مع الدين، وتصبح ثقافة أمر واقع.

ثقافة الأمر الواقع تدخل الأفكار الجديدة في متاهات واسعة، يتوه المصلح في آثارها وفروعها وينتج عنها تأخير تجديد النسيج الثقافي. ففي الوقت الذي كان يعظ فيه موسى عليه السلام فرعون بأن الله هو ربه ورب العالمين، كان الفرعون – الإله بزعمه – يجند نظامًا متكاملًا من السدنة والكهنة والسحرة والمهندسين لتسخير الشعب لخدمة فرد واحد.

ومع مطالب موسى لفرعون: (أن أرسل معي بني إسرائيل)، رغبة في أن يصنع منهم مجتمعًا جديدًا طاهرًا من أدران الوثنية، كان بنوا إسرائيل قد اعتادوا عبادة ما دون الله. حتى أنه عندما تم له ما أراد من خروج بني إسرائيل من مصر، تأخر وصولهم للمجتمع المنشود إلى ما بعد موته عليه السلام. فقد تطلب الأمر جيلاً جديدًا تستقر فيه ثقافة جديدة مبنية على عبادة الله وحدة ومتخلصة من العبودية والقهر. وهكذا هي الأفكار، تحتاج إلى وقت لكي تحل في المجتمع، وأيضًأ إلى بيئة مناسبة لتنموا بشكل صحيح.

ثقافة إنسانية
لكي يتجدد النسيج الثقافي بطريقة طبيعية ومتجانسة، يحتاج إلى بيئة داعمة لنمو الأفكار. بيئة تتعدد فيها المشارب وتعلي من قيمة الإنسان وتنبذ العصبيات، وهذا ما ينتج عنه ثقافة أكثر التصاقًا بمشاكل الناس وهموهم اليومية، وأكثر قوة وحيوية وقدرة على التجديد، ومتناسبة مع روح العصر. ومن هنا تظهر إشكالية المنهج الثقافي العربي المعاصر، الذي لا يعطي الفرد المتسع الثقافي الذي يستطيع من خلاله ممارسة حريته الثقافية، إلا من خلال منظور معين لا يستطيع أن يتجاوزه إلا بقدر محدود وضئيل.

لكي يتجدد النسيج الثقافي بطريقة طبيعية ومتجانسة، يحتاج إلى بيئة داعمة لنمو الأفكار، بيئة تتعدد فيها المشارب وتعلي من قيمة الإنسان وتنبذ العصبيات.

هذا المنظور الثقافي الذي يريد احتكاره جزء على حساب كل، الدعاة والعلمانيين والسياسيين وغيرهم، نتج عنه ضمورًا ثقافيًا عامًا وعجزَا في التنوع الثقافي العربي. وصنع ثقافة خاصة لا تصلح للمشاركة في المشهد الثقافي العالمي. هذا المشهد الذي له أدوات خاصة لم نتقن التعامل معها بعد، مع أننا نمتلك مخزونًا ثقافيًا كبيرًا تتوق إليه البشرية، نستطيع مشاركته جمعاء بدون التعارض مع قيمنا الإسلامية والعربية.

فثقافتنا تشتمل الكثير من المصطلحات الثقافية الجديدة والمثيرة للفضول مثل: اليقين والتوكل وحب الطبيعة ونبذ العنف|، والدعوة إلى الحق والعدل وتجنيب الإنسانية ويلات الحروب، والعطف على المساكين وأهل الكتاب والرأفة بغير المسلمين، واحترام الكبير وبر الوالدين وتقدير الأسبقية في الخير. وتجريم العبودية والاستغلال، وتحريم الإسراف وحرمان الفقراء والكسب الحرام.

كل هذا وغيره من المخزون الثقافي الهائل الذي يقبع في تراثنا العربي والإسلامي مما لم تحتاج إليه الإنسانية، نستطيع نشره ثقافيًا باستخدام الوسائل المتعارف عليها عالميًا، وهنا تبرز أهمية أدوات نشر الثقافة من فيلم ورواية ومسرحية وأوبرا وصور ورسومات وغيرها من وسائل حديثة وقديمة، التي إن أتقنا العمل بها فسنساهم في صنع الحضارة الإنسانية، والمشاركة في حل قضاياها العميقة. وما أحوج العالم اليوم إلى ثقافتنا المقتبسة من نور الله ومشكاة النبوة لتنير دربه وتعالج قضاياه بحكمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.