شعار قسم مدونات

المثقفون المراهقون والغرب

blogs - رجل يقرأ
يقول جان بول سارتر في مقدمته لكتاب معذبو الأرض: شرعت الصفوة الأوروبية تصنع صفوة من السكان الأصلين، أخذت تصطفي فتياناً مراهقين، وترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوروبية، وتحشو أفواههم بأشياء رنانة بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان ثم تردهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة وقد تزيفوا.

إن كلمات سارتر هذه خالدة أبد الدهر؛ اللهم إلا إذا تحررنا يقينياً وبشكل نهائي من الاستعمار غير مباشرة في وضعنا الحالي، أي الغزو الفكري والثقافي واللاأخلاقي الذي يفتكُ بشبابنا وشيبنا وأطفالنا ونسائنا. طبعاً لا ننسى الاستعمار المباشر والحروب التي لم تتوقف، يشنها الغرب علينا نحن أبناء الأرض وسكانها الأصليون، أبناء الشرق المُقدس والمُكدس بالدماء، كما يقول مروان مخول في قصيدته: حروبٌ وقتلٌ وإبدات جماعية ترتكب في حقنا من أجل حرية ابتدعوها وفرضوها علينا فرضاً بالحديدِ والنار.

في بادئ الأمر يُصدِرُ لنا الغرب المُراهقين بعد غسل أدمغتهم بلوثةِ ثقافتهم الغرائزية، المراهقين أي المثقفين الذين نعرفهم الآن، يدعوننا مثلاً لنتضامن أو نشارك في مظاهرة للحفاظ على السلاحف البحرية أو الحيتان. بينما يدكُ أسيادهم وفي الغرب مُدننا وقُرانا بأحدث الأسحلة وأكثرها تدميراً للحجر والبشر، المحرمة دولياً، دوليا هنا لا تشملنا طبعاً، هي علينا غير محرمة لا ضير في ذلك. لقد صارت شعوب العالم الثالث وأراضيها حقل للتجارب لأحدث ما توصل إليه العقلُ الغربي من ابتكارات عسكرية ونظريات فلسفية واجتماعية.

نحاول أن نصد الغرائز والطبائع والعادات الغربية والغريبة التي تحولنا مع مرور الزمن إلى شيء حيواني، إننا نفعل ذلك كله لكي لا نستيقظ ذات صباح مثل كافكا الذي وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة.

مسألة رفض الدين أو اللادينية التي يتشدقون بها ويدعوننا إلى اعتناقها ونبذ ديننا، هؤلاء المراهقون الذين حُشيت أفواههم بكلمات رنانة وكبيرة لزجة ترشِحُ قيحاً أبيض يلتصق بالأسنان، يقول عنهم علي شريعتي: ظهر المثقف في أوروبا في القرن السابع عشر، في ظروف كانت أوروبا إقطاعية وحكومة قيصرية تسيطر على الجميع باسم الدين. ومن هذا أصبحت هذه الطبقة في أوروبا معادية للدين أو لادينية وأول ما فعله المثقف في المجتمع الإسلامي والشرقي هو مقاومة الدين. كان من ثمار مقاومة الدين من أوروبا حرية الفكر والنضج الفكري والمدينة المزدهرة.. لكن عندنا كانت أولى ثمارها وأسرعها وأفدحها نفوذ الاستعمار الاقتصادي ونفوذ فلسفة الاستهلاك والانحطاط الفكري والانحراف وما إليه من أنواع الغزو الذي ابتليت بهِ المجتمعات الشرقية.

إن هذه الكلمات النابعة من صميم الواجدن في المجتمع الشرقي والإسلامي على لسان شريعتي، مع كلمات نابعة أيضاً من صميم الوجدان في المجتمع الغربي على لسان سارتر، تولدُ حقيقةُ مفادُها أن الحضارة والثقافة غير قابلة للتصدير والاستيراد. 

الأمر أشبه بأن تحاول أن تزرع الأشجار التي تنمو على الساحل في أعالي الجبال، هي لن تثمر حتماً وإن أثمرت، ستكون ثمارها مشوهة. غير قابلة للأكل وطعمها مر. كما يسري الأمر على الأشجار ينطبق على البشر كذلك. الغرب يحاولُ أن يزرع أشجارهُ أي ثقافتهُ في أرضنا وفينا، سيوّلدُ ذلك حتماً جيلاً من الناس المشوهين خلقياً ولا شيء فيهم حلو.

الحلُ يكمنُ في العودةِ إلى حضارتنا وتاريخنا الغني بالمعارف والعلوم على شتى أنواعها، الدينية والأدبية والاجتماعية والطبية والعسكرية والفلسفية. إن أجدادنا هم الذين وضعوا الأسس للعلوم كافة. الاستقلال الفكري والثقافي يفضي في نهاية الأمر إلى تحرير الأرض واستقلالها. إن الإنسان مركب من غرائز حيوانية ونسائم روحانية ورحمانية.

الغرب يريد أن ينمي فينا هذه الغرائز لكي تستولي علينا ونصبح عبيد المادة والشهوة وعبيدا لهم، إن ما خلقه الإيمان والعبادة هو الذي جعل من أُناس صغار عواصف عظيمة. فهاهم الرعيل الأول في الجزيرة العربية خرجوا من شعاب مكة حُفات الأقدام خوات الأمعاء، ولكن في قلوبهم انطوى العالم الأكبر، فتحوا العالم بقلوبهم تلك التي تفيض بالإيمان والعدل الذي هو أساس الملك.

إننا نتكب ونقرأ ونصلي ونبكي ونفعل الخير، ونقاوم من أجل الحفاظ على الإنسان الذي فينا، نحاول أن نصد هذه الغرائز والطبائع والعادات الغربية والغريبة، التي تحولنا مع مرور الزمن إلى شيء حيواني، إننا نفعل ذلك كله لكي لا نستيقظ ذات صباح مثل كافكا الذي وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.