شعار قسم مدونات

الليبرزدواجيّة

blogs - turkey evet
لا يُفوّتُ الليبراليون العربُ فرصةً لإظهار ازدواجيّة المعايير لديهم، وأحياناً يتخطى الأمر مجرّد الازدواجيّة ليصبح انفصاماً حاداً في "المبادئ والقيم" التي يدعون إليها! وقد تعمدّتُ أن أضع كلمتي مبادئ وقيم بين قوسين لأنها أشياء ضبابيّة لديهم، فالمبدأ الوحيد الواضح لليبرالي العربيّ هو أن يقف ضدّ الإسلام السّياسي ظالماً كان أم مظلوماً! فما دام الإسلامُ حبيس المسجد، مقتصراً على الصلوات والخُطب، والقرآن يُختم مرة في رمضان، ويُتلى على أرواح الأموات بقيّة العام، فلا بأس به! أما أن يخرج الإسلام إلى الحياة، ويُقرأ القرآنُ لتحكيمه بين الأحياء، فهنا يسقط المبدأ الذي تقوم عليه الليبرالية ألا وهو الحريّة، حريّة الفرد في الاعتقاد، وحريّة المجتمع في اختيار نظام حكمه!

 

بعض الليبراليين العرب يقفون مع سوط الحاكم ضدّ ظهر الشّعب العاري! كما يحدث الآن في ثورتي سوريا وليبيا، ولا مبرّر غير أن الطّابع الغالب على الثوار في كلا البلدين إسلاميّ، بغضّ النظر عن اختلاف مشاربهم وأدبيّاتهم!

مُذْ بدأت الليبراليّة العربيّة تطرحُ نفسها كتيّار ثقافي وفكري على أيدي روّادها الأوائل، كرفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، وطه حسين، وأحمد لطفي السّيد، وهي تتغنى بالحرّيات والدّيمقراطيّة، وحقوق الشعوب في اختيار حكّامها وتقرير مصيرها، ولكن عندما حانتْ لحظة الاختبار، وقف دعاة الحريّة مع أحذية العسكر ضدّ صناديق الاقتراع! تماماً كما حصل في مصر وانقلاب تركيا الفاشل! وهم فوق هذا مع الجلاَّد ضدّ الضّحيّة، ومع سوط الحاكم ضدّ ظهر الشّعب العاري! كما يحدث الآن في ثورتي سوريا وليبيا، ولا مبرّر غير أن الطّابع الغالب على الثوار في كلا البلدين إسلاميّ، بغضّ النظر عن اختلاف مشاربهم وأدبيّاتهم!

 

منذ أشهرٍ صوّت البريطانيون بنسبة 52% لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبيّ، فصدّع الليبراليون العرب رؤوسنا بمصطلحات من نوع: "الديمقراطيّة تنتصر" و"الشّعب يختار" و"بريطانيا قالت كلمتها"! وهذا كلام صحيح، الديمقراطيّة انتصرتْ والشّعب اختار وبريطانيا قالت كلمتها!

 

ومنذ أيام صوّت الأتراك بنسبة 51% لصالح تعديل الدّستور ليتحوّل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي.. فكيف كانتْ ردة فعل الليبراليين العرب؟ وجبَ أن تكون مشابهة لما كان عليه الحال في بريطانيا، فنسبة التصويت متشابهة، والشّعب هو الذي اختار، والديمقراطيّة التي يدعون إليها انتصرتْ! ولأنّ المبادئ مطّاطة، والمستفيد من الاستفتاء أردوغان، بدأ الانفصام يظهر للعلن على شكل مقالات وتصريحات و"بوستات" وتغريدات! انفصام يعجز "فرويد" وتلميذه "كارل يونغ" مجتمعين من تحليله وفهمه!

قال أحدهم، وأحدهم هذا أعرف اسمه ورسمه ولكني آثرتُ أن لا أذكره من باب "أميتوا الباطل بعدم ذكره": التّصويتُ أظهرَ انقساماً حادّاً في المجتمع التركي! فاتَ هذا العبقريّ أن يلتفت لنقطة مهمّة، وهي أن الاستفتاءات لا تُجرى إلا في حالة الانقسام الحاد في المجتمع! لو توافق النّاسُ على شيء فلماذا سيذهبون إلى صناديق الاقتراع ليُصوّتوا عليه؟! بريطانيا دعتْ شعبها للتصويت على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبيّ لأنها شهدتْ انقساماً حاداً، وهذا ما أظهرته نتائج التّصويت! ثمّ إني لا أعرفُ انتخابات ولا استفتاءات إلا وأظهرت انقساماً حاداً في المجتمع!

 

على سبيل المثال: الذين صوّتوا لهيلاري كلينتون أكثر من الذين صوّتوا لدونالد ترمب! ولكن النظام الانتخابي الأميركي قائم على فكرة المندوبين المخصصين لكل ولاية، وقد حصد ترمب ولايات ثرية بالمندوبين، وهكذا فاز الأقل أصواتاً والأكثر مندوبين! وهذا ما حدث من قبل في أميركا أيضاً، حيث حصل "آلغور" على أصوات شعبيّة أكثر مما حصل جورج بوش الابن، ولكنه خسر الانتخابات بأصوات المندوبين!

 

الانتخابات التمهيديّة لليسار الفرنسي أظهرت انقساماً حاداً، ولم يستطع أحد أن يحسم الأمر من الجولة الأولى! أليسَ هذا انقساماً حاداً في المجتمع "يا متعلمين يا بتوع المدارس"؟! فلماذا تتغنون بديمقراطية أميركا وبريطانيا وفرنسا وتذمّون ديمقراطيّة تركيا؟!

 

لماذا لا نتحدث عن ديمقراطيتنا؟!، إن آخر انتخابات شهدتها بلادنا كانت يوم اختارتْ قريش من كلّ رجل قبيلة! لماذا لا نتحدث عن حقوقنا التي لا ننالها إلا بالمكرمات الملكية، والهبات الأميرية؟!

يقول ليبراليّ آخر: تركيا تشهد ولادة ديكتاتور جديد! هذا الديكتاتور الجديد جاء عبر صناديق الاقتراع، ويمكن أن يسقط عبر صناديق الاقتراع بكل بساطة! فأين أنتم من الديكتاتورية والديكتاتوريين في بلادنا؟! لماذا تختبئون في جيوبهم؟! أليس لأن جيوبهم هي التي تضمن استمراركم، وكنفهم هو الذي يسمح لكم بممارسة ليبراليتكم التي لا نعرف منها شيئاً غير العداء الصلف للإسلام السياسي، هذا مع حسن الظنّ!

لستُ بصدد الدفاع عن أردوغان، لديّ ملاحظات عليه في كثير من ملفات المنطقة أكثر مما لديكم! ولكن هذا لا يمنعني أن أقول أنه رجل نقل تركيا نقلة أصابت الغرب بالجنون! وذكَّرتهم بأمجاد الدولة العثمانيّة! فإن لم يكن جيداً لنا فهو جيد لبلده وشعبه! فما الذي فعله الديكتاتوريون في بلادنا؟ انظروا حولكم لتعرفوا أن الأمم سبقتنا بألف سنة ضوئيّة!

 

ثم هو رجل اختاره شعبه، فماذا عن حكامنا؟ من منهم جاء عبر صندوق اقتراع؟ من منهم صوتنا له؟ إنهم يتوارثوننا الواحد بعد الآخر كما يرث المرء تركة أبيه من بعده! بدل أن ننتقد ديمقراطيات الآخرين، ومؤسساتهم ودساتيرهم، لماذا لا نتحدث عن ديمقراطيتنا؟!، إن آخر انتخابات شهدتها بلادنا كانت يوم اختارتْ قريش من كلّ رجل قبيلة! لماذا لا نتحدث عن حقوقنا التي لا ننالها إلا بالمكرمات الملكية، والهبات الأميرية؟! جميلٌ أن يرى الإنسان أخطاء الآخرين، ويعمل على تلافيها، ولكن القبيح أن يرى القشّة في عين غيره ولا يرى الجذع في عينه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.