شعار قسم مدونات

السكرة العثمانية الأردوغانية.. إلى أين؟

blogs استفتاء تركيا
لفت انتباهي مقال طريف على أحد المواقع العربية يصف كيف حث الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) وزراءه على إطلاق شواربهم. لم يكن المقال طريفاً بقدر طرافة بعض تعليقات الجمهور عليه، فأحدهم انطلق فى التكبير والتسبيح وكأنه رأى معجزة إلهية عظيمة وطفق آخر يكيل المديح لأردوغان وحزبه الذين يعيدون (تركيا) –على حد تعبيره- إلى حظيرة الإسلام وعاداته شيئاً فشيئاً.

ليس هذا إلا تعبيراً بسيطاً عن حالة السكرة العثمانية الأردوغانية التي اجتاحت العالم العربي مؤخراً على إثر انتشار بعض المسلسلات التاريخية الموجهة والإنجازات الأردوغانية السياسية في مواجهة العسكر والغرب. وقد بات كثير من العرب –خاصة الإسلاميين منهم- يحلمون بعودة الخلافة العثمانية من جديد على يد الخليفة المظفر (أردوغان).

لا شك أن التجربة التركية الأردوغانية هي أكثر التجارب الإسلامية السياسية تميزاً ونجاحاً، ولا شك أيضاً أن الله قد جعلها سبباً في نصرة كثير من المستضعفين وإيواء المشردين من آثار تجبر الظالمين وتسلط المتكبرين وأنها تستحق التأمل والدرس. إلا أن هذا لا يجب أن يذهلنا عن مبادئ السياسة التي نطمح إليها والقدوة التي يجب أن نأتسى بها.

إن النموذج الأمثل للسياسة الذي يجب أن نأتسى به ونتعلمه ونتخيل صورته الحديثة، ليس نموذج الخلافة العثمانية أو الأموية أو العباسية، وإنما هو نموذج دولة النبي – صلى الله عليه و سلم- والخلافة الراشدة. فهناك حديث مشهور عن النبى – صلى الله عليه و سلم- في مسند الإمام أحمد عن أطوار الحكم حيث يقول "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".

لم يكن هناك شيخ للإسلام عند الراشدين، ليس لأنهم جميعاً أئمة، ولكن ربما لعلمهم أن التسلط الديني لا يمكن أن يفرز سوى الجمود والتخلف، فكيف تُجبر أمة بكاملها على التزام رأي فقيه واحد عرضة للعزل بقرار سلطاني.

كنت أرى أن أهمية هذا الحديث تتلخص في البشارة النبوية التي تؤكد عودة نموذج الخلافة الراشدة مرة أخرى آخر الزمان، إلا أنني الآن أرى أن فائدة الحديث أكبر من ذلك بكثير، ففيه يحذرنا النبى – صلى الله عليه و سلم- من الانخداع بالصور المشوهة للسياسة والحكم التي سوف تمر على الأمة ويدعونا إلى أن ننتبه إلى أن هذه الصور جميعها ليست من منهاج النبوة في شيء، وأن وجه الانحراف الأعظم فيها هو ضياع الشورى وتولي الإمارة بالتغلب والتوريث وما يتبع ذلك حتماً من غلبة الاستبداد السياسي وانتشار الظلم والجهل والجمود.

لم يكن نظام الخلافة العثمانية يُعبر عن روح الإسلام وقيمه بأكثر مما يُعبر إطلاق الشوارب عن عادات الإسلام وشرائعه. إن إعجاب هؤلاء القراء بشوارب وزراء أردوغان إنما يعكس، ولو بقدر بسيط، حالة السكر واليوفوريا العثمانية الأردوغانية التي اجتاحت كثيراً من العرب الذين لم ينتبهوا إلى أن هذه الخلافة التي يقعون في حبها عقب مشاهدة بضع حلقات من مسلسل تاريخى موجه لم تكن على منهاج النبوة في شيء. فهذه الخلافة العثمانية، التي أسسها أحفاد (أرطغرل) بالتغلب وحافظوا عليها بتسلط العسكر، انتشر تحت ظلها الاستبداد والظلم والجهل. نعم كان هناك أحياناً بعض الجهاد وفتح البلاد وحماية المسلمين وتطبيق الشريعة (فيما لا يُخالف مصلحة السلاطين) ولكن في المجمل كانت الأمة ترزح تحت نير التسلط والجمود. وليس أدل على هذا إلا مثالين لا ينكرهما أحد.

فالأول هو انتشار قتل السلاطين لإخوانهم وأولادهم، فقط للمحافظة على هذا المُلك الجبري من التحلل، ومهما بلغت أعذار المعتذرين فلا يمكن لها أن تبرر قتل الأخ لأخيه والأب لولده، وقد كانت هذه سنة ماضية عند سلاطين بني عثمان والتي لم تكن إلا نتيجة طبيعية للأثرة والتغلب والتجبر بالسلطان ولو كان الأمر شورى لما كان هناك حاجة لمثل هذه القسوة المفسدة.

وأما الثاني فهو التحريم الأبله لآلة الطباعة عند ظهورها من قبل (شيخ الإسلام) والذي كان له أبلغ الأثر في تأخرالأمة قروناً عن ركب باقي الأمم. لم يكن هناك (شيخ للإسلام) عند الراشدين، ليس لأنهم جميعاً أئمة وحسب، ولكن ربما أيضاً لعلمهم أن مثل هذا التسلط الديني لا يمكن أن يفرز سوى الجمود والتخلف، فكيف تُجبر أمة بكاملها، وهي على هذا القدر من الرقي العلمي، كيف تُجبر على التزام رأي فقيه واحد عرضة للعزل بقرار سلطاني.

يمكننا تفهم رغبة أردوغان في إحياء التراث العثماني من جديد، ولعله في ذلك محكوم بثقافة الشعب التركي وقيمه، إلا أنه لا عذر لباقي الأمة إذا انجرفت إلى تقديس مثل هذه التجارب المنحرفة.

كانت هذه فقط أمثلة بسيطة على انحراف الدولة العثمانية عن المنهاج النبوي الأصيل، ويمكننا ملاحظة المئات من الأمثلة الأخرى المعبرة عن هذا الانحراف الذي أدى في نهايته إلى سقوط مدوٍ للأمة لم يسبقه مثله في التاريخ، فقد غلب عليها عدوها وسقطت بلاد الإسلام واحدة تلو الأخرى حتى أصبحت جميعاً من أقصى بلاد الهند حتى أبعد بلاد المغرب تقبع تحت نير الاحتلال الأجنبي بما فيها إسطنبول وبغداد والقاهرة ودمشق، وقد كان هذا قبيل سقوط الخلافة وليس بعده.

وما يزيد الطين بلة هو اقتداء بعض الشباب المتحمس بهذه النماذج المنحرفة حتى تصوروا أن التغلب والتسلط إنما هو الطريق الأمثل لإعادة الخلافة الإسلامية من جديد، وهيهات.

يمكننا تفهم رغبة (أردوغان) في إحياء التراث العثماني من جديد، ولعله في ذلك محكوم بثقافة الشعب التركي وقيمه، إلا أنه لا عذر لباقي الأمة إذا انجرفت إلى تقديس مثل هذه التجارب المنحرفة مثل تجربة (الخلافة العثمانية)، فإذا كنا سنقدس فلنقدس ما كان عليه النبي وأصحابه، وإذا كنا سنتأسى فلنتأسى بما كانوا عليه، وإن كنا سنعلم أبناءنا شيئاً عن السياسة والحكم، فليكن أساسه هذا المنهاج النبوي الرباني الصافي وليس غيره من المناهج الجبرية التسلطية البائسة.

لم يكن هذا حُكماً على (الدولة العثمانية) لذاتها، فقد مضت أيامها وحساب أهلها عند ربهم، إنما كان هذا تحذيراً من الانخداع بهذا النموذج المنحرف للسياسة الإسلامية والذهول عما هو أنفع وأهدى من السياسة النبوية الراشدية.

وأخيراً، فيا صديقى العزيز، إذا أردت أن تقضى ثلاث ساعات يومياً في مشاهدة المسلسلات التاريخية فلا بأس، ولكن فقط اجعل منها ساعة واحدة لتعلم سيرة النبي والخلفاء الراشدين وما كانوا عليه، فلعل هذه الساعة تكون أنفع من ألف ساعة.. والحمد لله رب العالمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.