شعار قسم مدونات

أن ترحل جدّتي.. نوّارة مارس

blogs - grandma
"لم يَمُتْ أحدٌ تماماً، تلك أرواحٌ تغيَّرَ شكلُها ومقامُها." قال درويش!

 

وأنتِ لم تموتي، فقط رُوحُكِ المزروعة فينا أبدا غيَّرت شكلها ومقامها، فقط عيناكِ الزرقاوان اللتان لا مثيل لهما لدى أي من أبنائك وأحفادك انطفأتا هنا لتمتلئا نورا هناك، فقط قلبكِ الذي يَرْشَحُ حُبَّاً توقف عن النبض ليستأنف حياةً أبدية، فقط انتقلتِ من أرض الله الواسعة إلى جِنانه الخالدة.. هكذا أحسبكِ وأتمناكِ.

 

حدث كل ذلك بعد غُرّة مارس/آذار الفائت بقليل.. شَهْرُكِ الأسطوري الذي مضى كئيبا وحزينا وبلا ربيع.. أنَّى لربيعه أن يتفتق وقد فقد نوّارته الأجمل؟!

 

قبل سنوات قال لنا جدّي -نحن حفيداته- عندما أصابتكِ وعكة صحية: "جداكم عندها غير بنت وحدة، وأنا واياكم للي غادي نبكيوعليها آبنياتي.."، يومها لم يدرك جدّي رحمه الله وهو يقول ما قاله بكل العشق والوجد الذي نضحت به عيناه لعيني رُقَيَّة منذ سبعة عقود أو يزيد.. لم يدرك ولا نحن أدركنا أنه سيموت قبلكِ بعشرِ سنوات، وأنتِ ونحنُ بكيناهُ بِحُرقةِ المُحِبَّاتِ اللواتي فقدنَ حبيباً ظليل القلب كالواحة، كما لم يدرك أو لم يشأ أن يخبرنا وترك لنا فُجاءةَ اكتشاف أنَّ الإنسان ليس للبكاء لحظة المنية فقط، وأن فقدان عزيز يبكي ويؤلم ما طالت الحياة.

 

بريقُ عينيكِ لا يوصَفُ عندما تعرفين أن الله يرسل غيثه على الأرض، تجيبينني بفرح القانعين: "الخير غير معاها أبنتي.." ذاك الفرح الذي تمنيتُ أن أراهُ يقفزُ إلى عينيْكِ قبل فترةٍ قصيرةٍ مِنْ رحيلكِ بينما آلامُكِ تزدادُ شِدَّةً

جدَّتي.. أنتِ لست امرأة عادية ولم تكوني كذلك. وطالما تساءلتُ وأنا أزوركِ في قريتنا الوديعة المنسية بالقرب من جبل "تكزيم" المنتصب بِعزَّة وسط ربوع "الرحامنة"، عن سرّ تلك السكينة التي أودع الله سرَّها فيكِ، وعن سبب تلك البهجة التي تنبع من سريرتكِ لتجعل من مُحيَّاكِ شمساً تسطعُ في قلوب الآخرين.

 

قبل أسابيع قليلة من غيابكِ الجسدي، أتذكر أصابعك الرقيقة تمرر على الرغم من تعبها حبَّات المسبحة بخشوع الزاهدين، كلما ختمتها تمتمت شفتاك بخفوت "الله يسهّلها علينا"، سؤالكِ الدائم كلما عنَّ لك أن تقولي شيئا هو: "هل تمطر؟ كاينة حالة الشتا؟ طاح شي ما؟" الأرض هَمُّكِ الوحيد والأوحد، "الرحامنة" حُبُّكِ وغَرَامُكِ وحَيَاتًُكِ وإيمانكِ الذي لا يتزعزع، المطر يعني حياة البلاد والعباد والماشية، فأنْ تُمطِرَ يعني أن "الدوار" وأهله الذين يمتهنُ أغلبهم زراعة الأرض ورعي الماشية سيكونون سعداء ومرتاحين بعد أن تشبعَ أغنامُهُم وتُثمِرَ حُقُولُهُم.

 

بريقُ عينيكِ لا يوصَفُ عندما تعرفين أن الله يرسل غيثه على الأرض، تجيبينني بفرح القانعين: "الخير غير معاها أبنتي.." ذاك الفرح الذي تمنيتُ أن أراهُ يقفزُ إلى عينيْكِ قبل فترةٍ قصيرةٍ مِنْ رحيلكِ بينما آلامُكِ تزدادُ شِدَّةً لكنها لم تمنعكِ مِنْ طرحِ السؤال ذاته.. سمحتُ لنفسي يومها أن أجيبكِ بأنَّها كذلك وأنا أدعو الله في سِرِّي أن تُمطِرَ فعلاً لعلَّ فرحك بها يخفف عنك المرض قليلا.

 

لم تسألي يوما عن مسؤول أو مكلف أو وزير أو مؤسسة أو ماذا فعلت الحكومة وما الذي عليها فعله لك ولأهل "الدوار"، لم تنتظري من كل هؤلاء أن يفعلوا شيئا لك أو لمنطقتك، بل لم تدركي يوما وجود هذا النظام المعقّد لتسيير شؤون المواطنين في البلاد بما في ذلك "الرحامنة" المهمشة حيثُ أمضيتِ عقود حياتك التسعة.. وكم أحسدك يا "لالة" على عدم إدراكك ذلك.

 

كنتِ تدركين فقط وبكل قوة وأصالة شخصيتكِ البدوية أنَّكِ يجب أن تكوني بين أهل "دوارك" الذين يغمرونكِ بِحُبِّهِم وَيُكِنُّونَ لكِ الاحترام، بل ويعتبرونكِ كبيرتهم بدون نقاش. لا تتخلفين عن حضور عزاء لمواساة أهل الفقيد وتكونين في مقدمة المُصلحين عندما ينقطع حبل الودّ بين شخصين أو زوجين أو جيران. أما الأفراح فمقامها ناقصٌ في غيابكِ ومراسيل أصحابها تتهافت عليكِ قبل أسابيع حرصاً على ضمان حضورك.

 

كيف أحكي عن امرأة خضراء الروح مثل السنابل الخضراء التي تجود بها أرض "الرحامنة" كلما ارتوت غيثا؟ امرأةُ هَشَّة كشقائق النُعمان قويةً كزهرة الصَّبَّار التي تتفتَّحُ بلُطفٍ مُتَوِّجَةً ثمرةً لذيذةً لا وصفَ لحلاوتها

مساءات البلدة عادة ما حملت أهل "الدوار" فرادى وزرافات لزيارتكِ والانضمام إلى مجمع صينية الشاي الذي تخلّيتِ منذ سنوات طويلة عن إعداده وصبِّهِ بطريقتكِ المُشتهاة، فاسحةً المجال أمام من تعشن معك من زوجات أبنائكِ في ذات البيت الكبير، ومستريحةً من "الشمار" الذي كان مرصعا بالمفاتيح، مفتاح بيت "الخزين" ومفتاح غرفتكِ ومفتاح صندوقكِ الذي مارس اكتشاف ما في عُمقِهِ إغراءً كبيراً علينا نحن حفيداتكِ طوال سنوات.. ذاك الصندوق الذي منحتِني لاحقاً ومِراراً شرف فتحه واكتشاف مخبوءاته.

 

أُسِرُّكِ القول يا "لالة" أني كنت أقول بيني وبين نفسي إنه سيكون هديتكِ لي بعد عمر طويل، لكنه لم يعني لي شيئا عندما تواريتِ أنتِ.. أنتِ التي كنت لا تغادرين القرية إلا لواجبٍ قاهرٍ خارِجَها، حتى زياراتكِ لبيتنا في "سيدي بوعثمان" الذي لا يبعد عنك سوى بضع كيلومترات غالبا ما كانت مختصرة وإن طالت لا تتجاوز الأسبوع، ورغم كل الحفاوة والحب تعدّين الأيام لتعودي إلى داركِ و"دوارك".

 

كيف أحكي عنكِ وأنتِ لستِ امرأةً عادية؟ كيف أحكي عن امرأة خضراء الروح مثل السنابل الخضراء التي تجود بها أرض "الرحامنة" كلما ارتوت غيثا، امرأةُ هَشَّة كشقائق النُعمان قويةً كزهرة الصَّبَّار التي تتفتَّحُ بلُطفٍ مُتَوِّجَةً ثمرةً لذيذةً لا وصفَ لحلاوتها، وأنتِ كنتِ حُلوَةَ المعشر والسيرة والكلام والحضور، وها أنت حلوة الذكر في الغياب المر.. كيف أحكي عن فخر "الرحمانيين" وهم يذكرون امرأة منهم لم تتأخر في "عام الجوع" عن التجوال بين الحقول لتحفر الأرض وتخرج "عروك إيرني" لتصنع منها وجبةً تسدُّ بها رمق أطفالها الجوعى وأقرانهم من أطفال "الدوار"؟!

 

كيف أحكي عن امرأةٍ حاربت من أجل استقرار أسرتها واستماتت في ذلك بكل الدهاء والذكاء والحيل والمكر والحب لكي تستعيد والد أطفالها بعدما أغرته فورة الشباب وتاهت بوصلته بعض الوقت ذات زيغ عابر ليعود إليكِ وإليهم عودة الطائر الذي اهتدى إلى عشه أخيرا.. "حافظت لأولادي على باهم" تقولين بابتسامة ساحرة.

 

كيف أحكي عن سيدة حملت وأنجبت وربَّت وكَبُرَ أطفالها دون أن ينتبه أحد لها، لا لآلام المخاض ولا لتقصير في القيام بواجباتها المنزلية الثقيلة أمام تربص أعين زوجات "اللوايس".. أتذكر قصتك مع طحن الملح كما نقلتها أولئك النسوة أنفسهن، كيف لامرأة عزيزة النفس "نفسي هنا" وأنت تؤشرين إلى أرنبة أنفك، أن تقوم بطحن ربع قنطار من "الملحة الحية" وتحولها من حجر صلب إلى مسحوق ناعم باستخدام الرحى الكبيرة التي لا يمكن لامرأة واحدة تحريكها بمفردها، حتى صار يضرب بحذاقتكِ ومهارتكِ وإتقانكِ المثل في قريتنا.

 

كم من ابتسامات الصبيان الذين اعتبرتُ دوما إسعادهم واجبكِ يمكنني أن أغرسها في نصوصي عنكِ؟ وكم شهادة أورد للشمس والأرض و"الرحمانيين" عن شهامتكِ وشجاعتكِ وفرادتك؟

بل إنَّكِ صرتِ مضربَ الأمثال في كلّ القرى المجاورة وأنتِ لم تكملي بعد عقدك الثاني، عندما تغلَّبتِ على كل الظروف ذات ليلة عاصفة كنتِ فيها رفقة جارتكِ عائدتين من "دوار" بعيد بعد زيارة عائلية، أعزلتين تسيران على أقدامكما وقد أدرككما الليل، وزاد الوضع سوءاً عندما أدركك المخاض هو الآخر.. يومها تجلَّت فيكِ كل القوة التي يمكن أن تتأتى لامرأة وأنتِ تلدين هناك في الخلاء لوحدكِ مسنودةً لجذع سدرة، بل وأنت تساعدين رفيقتكِ المُمسكة بالحبل السرِّي على قطعه بعد وضعه فوق حجر والطرق عليه بحجر آخر، ثم سرعان ما استجمعتِ قواك وقمتِ تحملين طفلكِ لتكملوا ثلاثتكم المسير نحو القرية وكأن شيئا لم يحدث.

 

كأني أكتب عن امرأة من الخيال، وهل أنتِ حقيقةٌ يا "لالة"؟ لا. فالحقيقة دائما بشعة وأنتِ كنتِ دائما جميلة، تحتفين بالحياة منذ وضعت أول "وشام" على معصمكِ الصقيل وأنت لازلتِ صَبِيَّةً تائقةً لاختبار أولى دهشات الفرح، تتفاءلين بالحنّاء التي ما رأيتُ يديكِ إلا مخضبة بها "راها خارجة من الجنة أبنتي". كنتِ دائما مثل صَبِيَّةٍ صغيرة تفرغ الضحك الوادع في الأجواء، إنَّها صورَتُكِ الفريدة التي تحيا فينا ومعنا، صورَتُكِ التي أذكر جيدا أنَّ أختي فاطمة وهي تُودِّعُكِ جَلَسَتْ أمامكِ مُطوَّلاً حتى لاحت على وجهكِ تباشير تلك الصبيَّة الضاحكة ثم أغمضت عينيها بسرعة وغادرت راضية بعد أن أحكمت القبض عليها.

 

"موتة واحدة كاينة.." كما كانت تغنّي "نجمات العيطة لحقيقيات" على قولكِ وكما كنت تغنّين أنتِ أيضا بإبداع مشهود كلما طابت جلساتكِ مع الأحباب. وهذه "الموتة" كانت حارة وحارقة ومفجعة لي ولـ"دوارك" و"للرحامنة" في مستهلّ الربيع المتردد، في بداية مارس الذي يخلف وعوده إلا معك، أنى له ذلك وأنتِ كل نوار الربيع في هفوه ودلاله وأصالته وفوحانه؟

 

كم من ربيعٍ يلزمني للكتابة عنك يا "لالة" وكم من مشموم عليَّ توليفه من حقول "الرحامنة" البرية لتكون رائحة الكتابة شبيهة برائحتك، كم من ابتسامات الصبيان الذين اعتبرتُ دوما إسعادهم واجبكِ يمكنني أن أغرسها في نصوصي عنكِ؟ وكم شهادة أورد للشمس والأرض و"الرحمانيين" عن شهامتكِ وشجاعتكِ وفرادتك؟

 

كُلَّما كتبتُ أيقنتُ أنِّي لم أبدأ بعد كما قالت فاطمة.. عليكِ رحمة الله ورضوانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.