شعار قسم مدونات

هل ضُحِّيَ بالتوافق المجتمعي مقابل انفراد أردوغان بالسلطة؟

blogs - turkey

بعد ظهور نتيجة الاستفتاء والتي أفرزت رجحان كفة المؤيدين بنسبة ضئيلة، كتب العديد حول انقسام الشعب وخطورته على المدنيين القريب والبعيد، فهل هذا القلق في محله؟ وألم ينتبه الحزب الحاكم والرئيس أردوغان لهذه الخطورة؟
 

مدى صحة انقسام الشعب:
ظهور الانقسام السياسي شيء طبيعي طالما هنالك حرية حقيقية في الآراء، وإلا لما أقيمت انتخابات واستفتاءات، ولكن القلق قد يساور البعض بسبب تقارب نسبة المؤيدين والمعارضين للتعديلات الدستورية، لكن تأملاً بسيطاً يزيل هذا القلق ويوضح الأمور بشكل أكبر.
 

فأولى التأملات هي أن التجاذبات والدعايات التي تسبق أي استفتاء تنتهي بمجرد إعلان النتيجة كون هذه الدعايات لمحاولة إقناع كل طرف لأكبر قدر من الشعب ببرنامجه ورأيه وليس لمحاربة الطرف الآخر على طول الخط. فبالتالي هذه النسبة المتقاربة قد ظهرت في استفتاءات عدة في دول أوروبية مختلفة ولم تؤدِّ إلى انقسام أو انهيار للوضع السياسي في تلك البلاد والشواهد على ذلك كثيرة.
 

تأمل آخر هو أن هذه النتيجة ليست غريبة على تركيا نفسِها، فقد حاز التعديل الدستوري الذي طرحه الرئيس الراحل "تورغوت أوزال" على نسبة تأييد تجاوزت الخمسين بالمئة بالكاد وانتهى الأمر بإقرار التعديل وسرعان ما عادت الحياة السياسية إلى طبيعتها. ومثال أقرب من ذلك هو فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2014 بنسبة 51.9 بالمئة.
 

فنسبة الفوز بفارق بسيط ليست داعية للقلق في بلد تمتد فيه تجارب الانتخابات والاستفتاءات لعقود طويلة، وأثبت القضاء نزاهته طوال تلك العقود، بغض النظر عن ادعاءات المعارضة التي تريد امتصاص غضب جمهورها بتلك الطعون مع علمها المسبق بأن طعونها لا تقدم ولا تؤخر في النتيجة النهائية.
 

الاستفتاءات تحتاج إلى شبه إجماع لإقرارها:

جزء كبير من الرافضين للاستفتاء هم من أبناء العدالة والتنمية أو الحركة القومية، وهؤلاء وإن لم يوافقوا رأي قياداتهم إلا أن معارضتهم للتعديلات ليست كتلك الناتجة عن اختلاف أيديولوجي أو لأجل مصالح حزبية أو شخصية.

يدعو البعض إلى ضرورة حصول شبه إجماع على إقرار الدساتير لأنها تختلف عن الانتخابات من حيث طول الأمد الذي يُعمل فيه بالدستور مقارنة بالانتخابات التي لا يستمر الفائز فيها أكثر من أربع أو خمس سنوات. هذا الرأي مع قوته إلا أنه يلزم في نهاية المطاف العمل بأحد الحلين: إما قبول التعديلات أو رفضها، وللتمكن من اختيار أحدهما لا بد من الرجوع إلى الشعب ليرجح كفة أحدهما ولو بنسبة ضئيلة. ولو افترضنا مثلاً أنه لم تُقر التعديلات الدستورية كون نسبة التأييد لم تفز بفارق كبير، فهل من المنطق قبول رأي 48.5 بالمئة مقابل رفض رأي 51.5 بالمئة من الشعب؟ وكما ذكرنا سابقاً، فهناك العديد من الاستفتاءات قد أُقرت أو رفضت ولو بفارق بسيط وأقرب مثال على ذلك هو استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك انفصالِ اسكتلندا عن بريطانيا.
 

إضافة إلى ذلك فهناك نقطة مهمة -خاصة في الدستور التركي- لم يُعِرْ كثير من المحللين لها اهتماماً، وهي أن الدستور ينص على موافقة 60 بالمئة من أعضاء البرلمان أولاً لتمرير أي تعديل دستوري من خلال الاستفتاء الشعبي، أو من خلال البرلمان مباشرة دون اللجوء لاستفتاء شعبي بموافقة ثلثي أعضاء البرلمان. ففي الاستفتاء الأخير، طرحت المواد المعدلة على التصويت في البرلمان كل مادة على حدة، وحصلت كل واحدة منها على موافقة ما يزيد عن 60 بالمئة من الأصوات. فبالتالي نستطيع القول إن هذه التعديلات مرت بمرحلتين من الموافقة الشعبية إحداهما مباشرة عن طريق الاستفتاء والأخرى غير مباشرة عن طريق البرلمان المنتخب من الشعب. إذًا لا داعي لمثل هذا القلق من عدم حصول الإجماع أو شبهه طالما مرت التعديلات بهذه التصفيات المضنية.
 

نقطة مهمة أيضاً، وهي أن جزءاً كبيراً من الرافضين هم من أبناء العدالة والتنمية أو الحركة القومية، فهؤلاء وإن لم يوافقوا رأي قياداتهم إلا أن معارضتهم للتعديلات ليست كتلك الناتجة عن اختلاف أيديولوجي أو لأجل مصالح حزبية أو شخصية وإنما بناء على قناعات كل حسب فهمه للتعديلات وعواقبها، فليس من المتوقع أن تسبب هذه الفئة انقساماً واضطراباً مجتمعياً، فهم في نهاية الأمر مؤيدون لتوجهات أردوغان وبرنامجه وأهليته للقيادة رغم رفضهم التعديلات الدستورية خوفاً من العواقب. فبالتالي ليس هناك ما يدعو إلى قلق حقيقي حول انقسام المجتمع وتأثيره على المسار السياسي في البلد.
 

هل غفل الحزب الحاكم عن أهمية حصول توافق حول التعديلات؟
يتصور البعض أن رئيس الجمهورية والحزب الحاكم أعماهما حب السلطة عن أهمية التوافق الشعبي وأن المسألة ليست مسألة كسر عظام من خلال الصناديق، لكن المتابع الجيد يدرك أن الحزب كان حريصاً جداً على حصول هذا التوافق. فقد بدأ بطرح مسألة التعديلات منذ عدة سنوات ولتحقيق هذا الغرض تكونت لجنة صياغة تعديل الدستور من الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان، وحرصاً من الحزب الحاكم على التوافق، مُثلت كل الأحزاب بنفس العدد من الأعضاء في هذه اللجنة رغم الأغلبية التي يملكها الحزب في البرلمان.
 

إضافة إلى ذلك، فتعنت المعارضة وعدم جديتها في النقاشات وخوفها من ابتعادها عن السلطة إذا ما تحول النظام إلى رئاسي بحيث تفقد المعارضة أملها في الوصول إلى السلطة إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه وبالتالي انسحابها من اللجنة وكذلك عدم تقديمها لأي تعديلات وبدائل، كل ذلك أدى إلى التفكير في طرح التعديلات للاستفتاء بمجرد حصولها على النصاب القانوني في البرلمان دون انتظار التوافق مع المعارضة.
 

علاوة على ذلك، فإن الذي أثار موضوع التعديلات في هذه المرة ليس الحزب الحاكم وإنما حزب الحركة القومية بعد التصريح المفاجئ لرئيسه "دولت باهتشلي" العام المنصرم حول إمكانية مناقشة المسألة مع الحزب الحاكم، لأن هذا الموضوع كان قد أُجل إلى أجل غير مسمى بالنسبة للحزب الحاكم خصوصاً بعد عدم حصوله على أغلبية ثلثي أو ثلاثة أخماس المقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة اللتين تمكنهما من إقرار التعديلات من خلال البرلمان مباشرة أو طرحها للاستفتاء الشعبي، على التوالي.
 

دليل آخر على إدراك الحزب الحاكم على أهمية التوافق على التعديلات، هو تصريحات مسؤوليه قبل الموافقة عليها في البرلمان حول ضرورة طرحها للاستفتاء الشعبي حتى لو حازت على موافقة ثلثي الأعضاء وإمكانيةِ إقرارها دون اللجوء للاستفتاء.
 

على أية حال، فقد أقرت التعديلات ويستبعد أن تتغير النتيجة بعد فحص الطعون التي قدمتها المعارضة. ومع ذلك يبقى القلق من استحواذ فرد واحد على السلطة أمراً مشروعاً للأتراك بغض النظر عن اسم ذلك الفرد أو هويته وهذا الحق المشروع يبقيهم في حال يقظة دائمة حتى لا يحول الانفراد إلى تجاوزات دستورية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.