شعار قسم مدونات

حدث في مصر.. مبادرة من أجل الإنسانية

blogs - thief

المهزلة التي نقع في شركها وهي أن يعاقبنا المشرع بجرم ما، وفق لوائح قانونية واضحة وقد تقاسم الخطيئة مع الواقع الضبابي المليء بالظلم والاضطهاد، محاربة الفقر لا تكمن بالسيف ولا بمعاقبة الفقراء بفقرهم والزج بهم في السجون بلائحة طويلة من القضايا والشبهات بينما يفر الأغنياء من تجار المخدرات والمتجرين بالبشر الموسومين بالشرف إلى أعرق المنتجعات العالمية ليمارس طقوس الراحة والاستجمام.

بين هؤلاء المطحونين، بين شقي الراحة والمحلقين في فضاء الاستجمام، هناك من لم يجد من يدله على الطريق فاتخذ الانحراف وسيلة للبقاء والتعايش مع واقعه، بل آثر البقاء تحت مظلة الجريمة خير له من الانتظار في محطة قطار، لن يأتي الجريمة التي لم يجد من يمد يده إليه ليخرجه منها قبل أن يحلَّ عليه العقاب.

الشق العظيم التي نعاني منه هو الكيل بمكيالين وكأننا نستذكر فيه قصة المرأة المخزومية التي تنتمي لبني مخزوم وقد طلبوا شفاعة الرسول عليه السلام فيها بعدم قطع يدها فقام عليه الصلاة والسلام وقال: "إِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيِهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". لم يأت أيُّ حكم شرعي قبل أن يتعلم الناس أمور دينهم، وقبل أن يتم بوضوح فهم المنهج السلوكي ثم يأتي العقاب وإقامة الحد بقطع اليد للسارق وبالجلد للزاني والزانية وغيرها.

الدعوة التي رفعها ذلك الشاب الذي ضحى بيديه من أجل أن يكسب الحلال، للإنسانية العالمية بأن يقفوا إلى جنبه من أجل أن يرى المحرومين النور، هذا بالفعل ما حدث في مصر والذي يسعى لأن ينير فيه العالم من حوله، ألا يستحق منا أن نقف معه ونشد على يديه؟

إن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه أيُّ حوار إقناعي ما يتم في الغرف المغلقة، ما تعيه العقول وما يستقر في القلب. وهذا يعني أن التصالح مع الذات هو من أهم أولويات القناعة والاقتناع والتي بناء عليها يكون الاستسلام الذي يتضمنه السلوك والذي يفرض نفسه على مفهوم العادة، غير أن هناك فخاً لا يمكن تخطيه ببساطة لمن وقع فريسة للفقر الذي قال عنه الفاروق لو كان الفقر رجلاً لقتلته، هذا يعني أن له لعنة في نشر شياطينه التي اختلفت في قدرتها على الإغواء والإفساد والمشكلة تكمن في عدم القدرة على إيقاف تمدده.

هذه اللعنة التي تصيدت الكثيرين ممن استمرئ الجريمة اللذيذة وهي الجريمة التي لم يستطع الأمن فيها إمساكه والإطاحة به فبقي متجلياً في فضاءات علم الجريمة، ولكن رغم هذا المرتع الذي اختاره بقي في نفسه وازع، بقي هناك ضمير، الضمير الذي رغب في التصالح مع الذات بعيداً عن الاضطراب النفسي والشعور بالخطيئة والرغبة في أن يعرف معنى الاستقرار ويستلذ في فيافيه.

الاستقرار الذي لا يكون وفق أيّ من المتغيرات الخارجية بل هو الذي ينبع من الداخل والذي يعلن جلد الذات. والذي لا يكتفي بجلد الذات بل يسعى لأن يعاقب نفسه بأن يتخلص مما جعله يلج في بؤرة الشر. والتغيير الحقيقي ما كان من الداخل، ما حرك كل الحواس من أجل الدفاع عن مبدأ ما وهو مبدأ الاستقامة.

وهذا ما حدث في مصر وشهدت عليه سكة الحديد التي نشرت على طول السكة دماء ليدين قد قطعتا وأبقت على جسد لشاب آثر أن يفقد ما جعله ينزلق إلى عالم الجريمة وشهوانية السرقة، لكنه أخيراً اكتشف أن عليه أن يخرج للنور، أن يملأ رئتيه بالهواء النظيف وأن يبني كيانه كمواطن سوي رغم حاجته، رغم كل ما يمكن أن يناله دون تعب منه أو جهد، لكنه أخيراً تصالح مع ذاته وأراد أن يطبق شرع الله في نفسه أن يقطع يديه ويبحث عن مصدر رزق حلال حتى وإن جاع.

علي عفيفي كان هذا الشاب الذي رفض أن يبقى عبداً وأراد أن يصبح سيداً، سيداً لذاته بعيداً عن منطق العبودية للرذيلة، أراد أن يجلد ذاته حتى بحرمانه. "خيركم من تاب وحسنت توبته" وهذه التوبة التي شخصها علي عفيفي بنفسه ليكون مثالاً ليس لنفسه وحسب بل للكثيرين من الذين فقدوا بوصلة الحياة ولم يجدوا تلك المنارة التي ستهديهم سواء السبيل، إلى هؤلاء كانت دعوته ومن أجل هؤلاء كانت رغبته في أن يبني أملاً ويعبد طريقاً ليعيد إليهم بوصلة الحياة السوية والنقية.

دعوته إلى الساعين من أجل الإصلاح وممن يريدون أن يمسكوا بزمام المبادرة بأن يساندوه في حلمه الذي أفاق عليه متأخراً ولكنه تشبث به جيداً، حلمه في أن يقيم جمعية للإصلاح، للبناء لمن فقدوا بوصلة دورهم الإيجابي في الحياة إنها صرخة الغريق الذي ذاق طعم المرارة والتي لا يعرف رموزها إلا من ذاقها وتلوى تحت لسعات سياطها.

إنها الدعوة التي رفعها ذلك الشاب الذي ضحى بيديه من أجل أن يكسب الحلال، للإنسانية العالمية بأن يقفوا إلى جنبه من أجل أن يرى المحرومين النور، هذا بالفعل ما حدث في مصر والذي يسعى لأن ينير فيه العالم من حوله، ألا يستحق منا أن نقف معه ونشد على يديه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.