شعار قسم مدونات

اعْتِرَافَاتُ لَيْلٍ أَعْمَى

blogs - home nuit
لا يَمُرُّ يومٌ إلا وقرأت فيه كتابًا. فأنا لا أجد نفسي اإلا في قراءة الكُتبِ التي عادة ما تُعيد لي الرغبة في الحياة ومواصلة البحث عن أشلاء الذاكرة الممزقةِ. أنا كالليل لا شيء يعجبني غير الصراخِ وحيدًا في فراغات الجرحِ الذي أصابني. لستُ كاتبا، ولكن أكتب محاولا التخلص من وشم الغياب.

فالكتابة في آخر المطاف صِراعٌ مع الذاتِ، بحثٌ جنونيٌ عن رُوح حَوَّلَها الفراغ إلى صحراء قاحلة. لم أسأل نفسي مرة عن سبب هذا البحث المستمر عن مخلفات الذات، ولا عن سبب الصراخ في الصفحات البيضاء.

لم أسأل عن ذلك الجرح الذي يلازمني كالظل. دائما أحاول البحث عن طريقة للسفر إلى أفغانستان. تلك الأرض التي ترتدي جبالا من الغبار والتي تحمل لون الدم، لكن فيها كل شيء مقدس. أرض الشعر والورد والبلبل، حيث الجرح الوجدي لا يفارق مخيلة الشعراء والكتاب الذين تركوا الأرض من أجل منفى يضمن لهم حرية الوجود والكتابة دون قيد أو شرط.

بَقيتُ سبع سنوات صامتا كالصخر، لاعتقادي أن الصمت هو الحل الوحيد للبحث عن نفسي بعيدا عن هذا العالم المنافق. لم تعتد قدماي المشي في الفراغ بسهولة، فملمس الفراغ كان يمنحني إحساسا غريبا، يجعل مني غريبا إلى أبعد الحدود. عشتُ في بلادٍ لا شيء لي فيها سوى ذكرياتٍ سوداء حولت حياتي إلى جحيم لا يطاق. أعرف أنه كان لي بيتٌ وأهلٌ في هذه الأرض، لكن تبخر كل شيء وتحولت حياتي إلى كابوسٍ مُظلم يخيف كل من ينظر إليه. ودائما ما أتذكر قولة الشاعرالإسباني الشهير أنطونيو ماتشادو، حين يقول: ’’وحده أدرك أن العمر عود ثقاب يشتعل بغتة وينطفئ لأقل نسمة هواء’. أعترف أن هذه المقولة غيرت طريقة تفكيري، رغم أنني تأخرت كثيرا في فهمها.

يا صديقي لا تنتظر شيئا من الآخرين، فأنت لست سوى بضاعة رخيصة تفقد قيمتها كلما مر الزمان عليها. لا تنتظر شيئا من أحد، وكن أنت انتظار نفسك لعلك تجدها يوما إلى جانبك…

لا تغرنكم الوجوه، فإن استطعتم احملوا قلوبكم وارحلوا بعيدا، فهذه الأرض ملعونةٌ جعلت من الظلم والنفاق والقتل دينًا. فكيف نعيش في عالم يقتل فيه الإنسان أخاه الإنسان، في عالم تُغتصب فيه الطفولة ظلما وعدوانا. أفتقد شخصا كثيرا، فقد كان الأقرب من النبض إلى قلبي. اليوم لا أحد بجواري لأفرغ له ما في صدري من هذيان وصراخ ودمار. اليوم أنا وحيدٌ كورقة البلوط اليابسة على الطرقات.

أعترف أنني كنت أنانيا، نرجسيا إلى درجة الجنون. آه، لو تعلمين أن السماء لم تعد تعني لي شيئا والنجوم أصبحت بلا معنى. آه، لم تعلمين أنني سجين ألف ليلة وليلة. لم أجرؤ على الاقتراب منك أيها البعيد، رغم أن نفسي راودتني عنك كثيرا. فأنا كالطير الجريح لا أستطيع التحليق بعيدا والجرح أثقل جسدي. لكن، لم أسلم من الكتابة فأصابعي تقودني إلى النبش في بياض الورقة فأخدش بعض الكلمات بقطرات الدم التي تسقط من روحي.

الحب كالحلم الطفولي، ولولاه لما وضعتُ رأسي على الوسادة. أعيش فقط لأقدس الحب الذي يجري في دمي. فإذا مُت. من سيقرأ قصائدي التي تدفئ جدران هذه الغرفة المظلمة. ربما لا أحد، فهذه الاعترافات ليست خيالا واسعا، وإنما صرخة إنسان حوله الجرح إلى شاعر يرتدي معطف الليل ويقول في الحب ما يقول المجانين في الموت.

أكتبُ ليس لأعاتبَ أحدًا، وإنما لأَخْرُجَ من الليل إلى صُبحِ القصيدة، فالظلمةُ أصبحت وطنا للذين لم يجدوا في النور مُتسعا للعيش والحياة. أنا مثل الخواءات التي لا يستطيع النور ولوجها. وتشققات الذاكرة جعلت من كلامي فراغا في فراغ. لا شيء ينتصر اليوم على العزلة حين يتحول القلب إلى قطعة خُبزٍ حافية. والعين لا ترى في الظلمة سوى تَشَقُّقِ الجدران حين تنطفئ المصابيح خِلسةً. أنا اليومَ أعترف أنني فقدت كل شيء، ولم أعد أملك شيئا سوى الكلمات وقطعةِِ من قصيدة تَحترقُ على إيقاع الحَطبِ. أنا كالسراب السكران، أنتظر رسول الموت على جبل حَوًّلَهُ الليل إلى كَاهِن.

أستريح في العراء ورائحة العطش اِلْتَوَتْ على لساني. سوادٌ يَلتهم انتفتاحَ وردةٍ والقمرُ في السماء البعيدة مُقيدٌ، كأنهم صَلبوهُ قبل أن يتحول إلى حَجرٍ. هذه السماء التي كانت يوما السقف الذي يَحْمِينِي من أشواكِ العُزْلَةِ، أصبحت اليوم مَقبرة السكارى والمجانين. لن أنسى آخر كلمات صديقي الهندي الذي يسكنه الجرح، حتى يكاد يكون رمق عطشه اليومي. بكل حزن الوحيدِ ودمعات الجريح المُتألمِ كان يقول لي: ’’يا صديقي لا تنتظر شيئا من الآخرين، فأنت لست سوى بضاعة رخيصة تفقد قيمتها كلما مر الزمان عليها. لا تنتظر شيئا من أحد، وكن أنت انتظار نفسك لعلك تجدها يوما إلى جانبك…’’.

هذه الكلمات لم تكن قط كلاما فارغا، اليوم عَرفْتُ ما كان يقصده هذا الصديق البعيدُ. اليوم لم أجد أحدا إلى جانبي وأحسست أني وَحيدٌ كالوردة في الثلج. اليوم أدركت أن لا أحدَ يُمكنه أن يُريني الطريقَ إلى النورِ غير نَفْسِي. أنا مِرآة نفسي التي كسرَهَا الجُرحُ يوما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.