شعار قسم مدونات

ما فائدة الالتزام في جماعات؟

blogs - مصلون
عرفت في حياتي أعداداً كبيرة من الملتزمين، سواء في دمشق أو في غيرها من البلدان: ممن انتسبوا لجماعات مختلفة، مثل الإخوان أو القبيسيات.. ومن الذين انضموا تحت لواء شيخ معين؛ فاتبعوه وتبنوا رأيه وأقواله (وما أشهر الشيوخ وما أكثر أتباعهم ومريديهم). ومن الذين تبنوا مذهباً معيناً أو فكراً معروفاً، مثل السلفية وغيرها.

عرفت هؤلاء وغيرهم من أربعين سنة، وشهدتهم وهم ملتزمون مع جماعتهم، يحضرون دروسها، ويحفظون نصوصها، ويذاكرون كتبها، ويتعصبون لفكرها، ويتحزبون لأفرادها، ولأكثرهم لقاءات أسبوعية يحرصون عليها حرصهم على صلاتهم وصيامهم، فلا يمنعهم عنها مطر ولا عمل، ولا ضيوف ولا مرض خفيف، ويتصبرون على زحمة الشوارع وتكاليف المواصلات، وإرهاق الانتظار والتأخير، وإعداد الضيافة، والقراءة في الكتب المقررة، وتحضير المواد والمناقشة فيها، والمعاناة التي تستتبع ذلك. ورأيتهم ينافحون عنها، ويُروّجون لها، ويشكرون منها، وإذا انتقلوا من بلدهم التحقوا بفرع جماعتهم في غربتهم، وتمسكوا بها.

ومن أجلها قد يغيب الرجل عن بيته طويلاً، ويُهمل أسرته، ويُقصر في واجباته، ويفسد علاقته بزوجته، ويسهر ويجهد نفسه، وقد يمنع شيئاً ضرورياً عن عائلته ليدفع اشتراكاً شهرياً دعماً ومؤازرة لها. وبسبب الانتساب للجماعات النسائية تحصل مشكلات بين المرأة الملتزمة وزوجها -لتكون كما علموها- فتلبس بما يفتون وتتصرف كما يحبون، وتغيب عن البيت كما يقترحون، فتقع المشادات والخلافات العائلية.

يتكلمون دائماً باسم الدين وباسم الإسلام، فيجعلون الناس يتخوفون منهم وينفرون، فكلنا مسلمون وبلادنا بلاد التزام، ولكنهم يعرضون أنفسهم على الباقين وكأن جماعتهم وحدها من المؤمنين.

أموال كثيرة وجهود كبيرة يبذلونها؛ وهكذا هي أكثر الجماعات: تنظيمات مرتبة لها أهداف ورؤى، وحلقات، ومتابعة، وتنظيم هرمي، ومناهج مدروسة وكتب قيمة، وأساتذة مختارون بعناية، ورئيس ومجلس إدارة ولجان تخطيط وتنسيق وتنفيذ، وأكثرها يعمل ويستقطب الناس منذ عقود.

كم صرف الناس من وقتهم في الذهاب والإياب، وكم ضيعوا أهلهم من أجل هذا الالتزام، وكم تحملوا من الاضطهاد، كل هذا والآن وبعد مرور السنين، تبين أن أكثر عملهم بلا فائدة، وأن غالب جهدهم بلا عائد يذكر؛ سواء في تغيير الأفراد، أو في مجال إصلاح المجتمعات، فقد ذهب جله هباء:

1- إذ أثبت الواقع أن للنشأة الأولى الأثر الأكبر في بناء الشخصية، ولطريقة التربية الأثر الأعمق في تشكيل القناعات، وللجبلة الأثرالأقوى في السلوك والتصرفات، وللبيئة المحيطة القدرة الخارقة على زرع القيم والأخلاق؛ فلا نفعت الجماعات ولا الشيوخ ولا المذاهب الفكرية في تغيير سلوك الناس، أو تعديل عاداتهم وتقاليدهم، أو حثهم على العمل الصالح!

فمن وُجدت فيه التقوى، فهذه من شكيمته، ومن وجد فيه التفاؤل والنشاط فهذه من طبيعته، ومن وجد فيه العمل الدؤوب فهذا من إنسانيته ونخوته؛ كل شخص دخل إلى جماعته بقيمه وفكره وخلقه، وبقي فيها بقيمه وفكره وخلقه، وقد يخرج منها بنفس القيم والخلق والفكر، اللهم إلا شيئاً قليلاً لا يذكر من علم بسيط أو وعي خفيف استزاد منه، ثم لم يجعل له شأناً في حياته العملية أو سلوكه الخارجي أو نضوجه الفكري؛ مع أن المناهج التي يدرسونها، والأفكار التي يتعلمونها، لكفيلة بجعلهم من كبار التابعين (ولن أقول من الصحابة) بقيمهم وعلمهم، لو أرادوا، أو فقهوا.. ودليلي على قولي: "الناس كإبل المئة لا تجد فيهم راحلة"، و"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".

2- وأما على المستوى العام، فلم تستطع القيادات ضبط أتباعها، ولا تغييرهم، رغم الجهود العظيمة التي بذلوها، والسمعة العامة التي حملوها: فتحملت الجماعات عذاب السجون، وقساوة الاتهام، وسيئات الفرقة والانقسام، ولم تصل لهدف واحد من أهدافها الكبيرة التي وضعتها.. ولا أنكر الحرب الشرسة التي تعرضت لها الجماعات المعتدلة (فأنا من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة)، ولكن مقالي اليوم مخصص للحديث عن القيادات الدينية وجوانب من أخطائها.

لقد آن الآوان لنجد طريقة أفضل -من الأسر والدروس والتنظيمات الخاصة- نصل إلى جموع الناس بها، وآن الآوان لنجد وسيلة أشمل من الحديث مع مجموعة صغيرة من الأفراد في غرف منعزلة عن الناس، وخفية عن الحكومات، وآن الآوان أن نستعمل أسلوباً أقوى لنصل فيه إلى عمق قلوبهم وجذر عقولهم، وإلى عامة الشعوب وغالب الأمة، ليقتنعوا فيتغير شيء حقيقي ومهم في قيمهم ومبادئهم، فتسمو حياتهم وسلوكهم، وينبذوا عاداتهم المقيتة، ويعدلوا على مخالفاتهم القاتلة.

ومن الأخطاء الكبيرة للجماعات أنهم يتكلمون دائماً باسم الدين وباسم الإسلام، فيجعلون الناس يتخوفون منهم وينفرون، فكلنا مسلمون وبلادنا بلاد التزام، ولكنهم يعرضون أنفسهم على الباقين وكأن جماعتهم وحدها من المؤمنين وبقية الناس من المخالفين، أو كأنهم وحدهم على الطريق المستقيم وبقية الجماعات جانبت الحد القويم! كما أن تسمية أي جماعة بالإسلامية يجعل المسؤولية عليها عظيمة، والخطأ فيها مضاعفاً وخطيراً.

وإن الله جعلنا جميعاً خلفاء في الأرض -سواء أبقينا مستقلين أم انضممنا إلى جماعة من المسلمين- فاتركوا الناس ليعمل كل منهم على شاكلته، ويقدم حسب استطاعته.

ومن عيوبهم أنهم يتكلمون بأسلوب التحريم والتجريم والتخويف! فما الضير لو كلموا البشرية بالترغيب، وبالإنسانية والقيم والخلق والذوق، ألم يفعل هذا النبي عليه السلام حين أقنع الرجل بترك الزنا؟! وماذا لو بحثوا مشكلات الأمة العامة، وهموم الشباب الدراسية والمالية!؟ بدل الكلام في المسائل الفرعية الصغيرة، وإشاعة الوسوسة بين الناس، في اللمم والقضايا الخلافية؟! لقد جعلوا الناس يرتعدون من مس مصحف بلا وضوء، ولا يهتمون لسلب غرض أو إذلال شخص وتشويه سمعته (وهو في الشرع قذف يستحق جلد، ويُسقط الشهادة).

وفي عصرنا لم يعد من المحبذ، بل ليس من الصواب أن تُبرز الجماعات هويتها الإسلامية بوضوح، وأن تتحدث باسم الدين والإسلام بصراحة وراحة، وقد صنفوا كل هذا من الإرهاب والشيطنة، لقد أصبحنا بحاجة إلى بعض الذكاء والكيد والدهاء في الدعوة والإصلاح، وإلا حكمنا على كل جهد بالفناء أو النبذ والمحاربة بشراسة.

ومن المهم الانتباه! لأن الأمة العربية تعيش في بلدانها مع كل الديانات والأطياف، وإن الشعوب العريقة المتحضرة تتعايش بسلام ووئام، مهما تباعدت بالأفكار والطقوس والعبادات؛ وإن العمل العظيم الذي يرتجى من المصلحين: "القدرة على التوفيق بين جميع الأعراق، والحد من الخلافات والاختلاف قدر المستطاع، مع بقائهم على معتقداتهم ومذاهبهم"، بدل تقسيمهم وضمهم في جماعات، فإن هذا يقوي العداء بينهم، ويسهل على العدو النيل منهم.

وإن الله جعلنا جميعاً خلفاء في الأرض -سواء أبقينا مستقلين أم انضممنا إلى جماعة من المسلمين- فاتركوا الناس ليعمل كل منهم على شاكلته، ويقدم حسب استطاعته؛ دلوهم -فقط- على البرامج الهادفة والأفكار المعتدلة، والفتاوى الوسطية، والكتب المنطقية، وأحيوا فيهم الضمير والمشاعر الإنسانية، فهذا أفضل وأسهل وأسلم وأصوب من ضمهم لجماعة محددة، أو جمعهم تحت راية منفردة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.