شعار قسم مدونات

عندما تتعافى

Blogs - Man
في البداية سيبدو وكأنك علقت في زجاجةِ قارٍ مغلقة لا راحةَ في المُقام ولا أمل في الصعود! ستشعر وكأن الأيام تتبدل فقط لتستوعب مزيدا من الألم، لن يتركك أحد، ولكنك ستلغي الجميع، قد يغدو النوم مستحيلًا وقد يصبح هو نشاطك الوحيد، هناك ثقل كبير على قلبك يجر لسانك نحوه لذلك أنت لا تتكلم كثيًرا، الخبر الجيد هنا هو أن عقلك لايزال يعمل، بل وبشدة، لكن في كل تفصيلة ترهقك، يضع لكل تفصيلة ألف أخرى ولكل ألفٍ منها مئة احتمال؛ يفكر في الحاضر والماضي ويجول بك في تلافيفه فيرعبك من المستقبل، ولا يقودك إلا إلى قاع الزجاجة من جديد، قد تشعر أحيانا وكأن أحدًا فتح على قلبك بابًا وأخرج هذا الكابوس للأبد، ولكنك تكتشف أنه كان فاصلًا سريعًا لتعود بعزم أكبر لضيفك الأسود الجديد…

ما كنت تشعر به من ألم كان حقيقيًا، أنت لم تكن تحلم أو تبالغ، فالألم النفسي هو أن تشكو نارًا تلتهم حشاك والجميع يقسم أنك في عرض البحر.

حين تتعافى ستشكر الاكتئاب أن أوصلك إلى أسبار روحك وأن دلك عليك، ستسمع صوتك للمرة الأولى، إن كنت مثلي فقدته وسط عالم من التماهي، صوتك أنت هذه المرة لا صوتهم؛ أفكارك وطرقك الخاصة بك لا بهم، فوحدهم المتعافون من الاكتئاب من يختصرون ما قد يتعلمه المرء في سنين طويلة في زجاجة قار واحدة، وستعرف حينها أنه كان لابد من الفوضى وتطاير الأوراق والخطط ليذهب ما هو مزيف منها ويبقى فقط ما يستحق الملاحقة.

ما كنت تشعر به من ألم كان حقيقيًا، أنت لم تكن تحلم أو تبالغ، فالألم النفسي هو أن تشكو نارًا تلتهم حشاك والجميع يقسم أنك في عرض البحر، لا بأس عليك، ستتعلم من ذلك أنك الأهم في حياتك، وأن عليك الاعتناء بك دومًا حتى في أسوء الظروف، اخلق لنفسك حجة لتنهض من الفراش حتى وإن كانت حلوى تضعها مساءً لتبدأ بها في الصباح، واعلم أن الإنجازات الصغيرة هي الحل دومًا فاخلق لنفسك كثيرا منها، وجزء مهامك واجعلها يسيرة متعددة، اكتب أفكارك دومًا، أو اكتب ما أردت وإن كان بلا معنى.. لا تدع تلك الكلمات تشكل قصصًا وحكايا في رأسك المتعب فالكتابة هي البكاء الذي لا تستطيع إليه سبيلًا.

الخبر الجيد هنا هو أن عقلك لايزال يعمل، بل وبشدة، لكن في كل تفصيلة ترهقك، يضع لكل تفصيلة ألف أخرى ولكل ألفٍ منها مئة احتمال!

أما عن الجملة الشهيرة "الاكتئاب لا يعالج بالقرب من الله"، ليس هذا لأن الله يعجزه شيء -حاشاه -لكن لأن الاكتئاب كسائر الأمراض يعالج بالتوكل على الله والأخذ بالأسباب؛ فالله لا يحابي الجهلاء، أضف إلى هذا أن من يُطلب منه التقرب إلى الله لا يشعر بشيء مطلقًا؛ الحب والكره، البعد والقرب كله سيان، كل شيء يختفي ويستحيل سوادًا، قد يصلي ويقرأ القرآن ولكن عقله لا يهدأ ويبدأ في إشعال النار في جسده من جديد ولا يسمح له بالسكون المبتغى من القرب، وأنت حين تتعافى ستدرك جيدًا أن القرب من الله يسد على الاكتئاب كل مداخله ويمنعها عليه.

سيسمح لك القدر بأن تمضي ثانيًا في كل الطرقات التي مضيت فيها منكسر القلب مطأطأ الجبين، لكن في هذه المرة وأنت قوي تشعر بكل لمسة للأرض من تحتك، سيسكن كل ما في قلبك عدا من استنتاج واحد لن يتبدل: "فكم لله من لطفي خفي"، ستدرك أيضًا أن القدر ليس مرعبًا بل إنه جميل، إذ أنه من رب جميل، أنت تطمئن إذا كان لك رفيق يمسك بيدك ويعرف الطريق وإ ن كنت مغمض العينين، فكيف بمن خلق الطريق والرفيق وسيرك؟! وعندما تهدأ الزوبعة في رأسك ستستمتع كثيرًا بتأمل لطف الله في أيامك، مدركًا أن الله أرحم من أن يخلق لخليفته في الأرض حزنًا كهذا لا يستطيع تجاوزه.

عندما تتعافى يا رفيق ستنظر لنفسك بعين راضية شاكرًا إياها أن جابهت معك كل تلك الصراعات‘ وستعلم أن الأسود كان يمتص بداخله كثيرا من الألوان التي كان عليك اكتشافها، أكتب هذا لأخبرك بأنه لابأس كله سيمر وإن طال، ولأنه وحين تتعافى -تمامًا حيث أقف أنا – من الجيد أن تنظر لزجاجة القار من الأعلى. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.