شعار قسم مدونات

الأزمة العربية ومآلاتها: اغتيال العقل (1)

blogs - تجديد العقل
عرض المفكّر برهان غليون في كتابه ’اغتيال العقل’ الأزمة العربية وتحوّلاتها وامتدادات التخبّط بين القديم والحديث، التراث والحداثة، ومأزق التقدم وكيف نشأ، والسيرورة الاجتماعية والثقافية محللاً ومفككاً جميع الأطراف والتوجّهات والأطروحات في الواقع العربي وما أدى له، والرؤى النهضوية التي يطرحها المفكّر للخروج من المأزق التاريخي والتحوّل للدخول إلى الذاتية والتاريخ والإبداع.

كيف يصبح مجتمعٌ متقدمٌ وآخر متأخر؟ ما هي الإشكالية التي وقع فيها أنصار القديم والحديث؟ لم لا يتم التوفيق بين التراث والحداثة؟ لماذا لم ينتصر أصحاب الحداثة – بوصفهم الفريق العقلاني والتجديدي؟ لماذا تأخّر العرب عن ركب الحضارات العالمية؟ وما هو دور العقل العربيّ في المحنة الثقافية العربية؟ هل تأخُّر العرب ناجم عن قصور في البنية العقلية نفسها؟ وما هي سبل التقدم التي طرحها غليون للخروج من المأزق التاريخي الراهن؟

بدايةً لا بد للوعي العربي أن يدرك الأزمة التي يمر بها، فلن يكون ثمة أي انتقالات وتطورات إن حدث تجاهل للواقع أو أي تجميل أو لامبالاة في التعامل مع الحدث العربي. كيف يكون المجتمع العربي متأخرا لا متقدما؟ عندما يكون التقدم هو مسايرة العصر والمشاركة في نفس التنظيمات الحضارية وتمثّلها! ويأتي طرح العرب لقضية النهضة في جميع جوانبها والتغيير والتقدّم واللّحاق بالحضارة الكونية منذ أكثر من قرن ليفضي بالضرورة إلى وجود مقدمة لهذه النتيجة: وجود تأخّر سابق على النهضة والتقدم.

المفاهيم الفكرية والغايات النبيلة والمطلب الرئيس "الحرية" الإنسانية لحياة المواطن تكمن وتتحقق في أبهى صورها من خلال الطبع والممارسة لا يوتوبياً فقط.

للوهلة الأولى يذهب بك عنوان الكتاب ’اغتيال العقل’ إلى أن غليون سيعرض لنا مذهباً عقلياً صرفاً ينتصر فيه لدعاة العقل والعقلانية العرب ضد التقليديين والتراثيين المتمثلين بالنص التاريخي أو الديني، ففريق هنا وفريق هناك، وأضعف الإيمان سيحاول التوفيق بين الفريقين المتنازعين وينهي الخلاف والجدل، لنصل إلى السؤال: ما هو موقف غليون من التراث والحداثة؟ "الأصوليون يرون الحضارة كامنة بالقوة في الثقافة المحلية أو في التراث ولا تحتاج إلا إلى فرصة لظهورها، والحداثيون يرون المدنيّة كامنة في الحضارة ذاتها ويكفي استيرادها أو توطينها حتى تتحقق العودة إلى التاريخ وإلى الفاعلية".. فالفروق تكمن في ماهيتهما والقطيعة من حيث البيان قائمة بين كل من الطرفيين، ولا يمكن أن يتصور أصلاً – أحدهم أحقيةَ الآخر في التصريح والإجابة عن كيفية تغيير الواقع العربي للأفضل وعدم التقبل الجذري للبرامج السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية في كلا الفريقين، كان هذا تراثياً أو حداثياً، فيعتبر إما رجعياً أو تبعياً.

أليس كل من الطرفين وجهتهما واحدة هي بناء الحضارة؟ فلم العجز من أن يتم التوفيق والتصالح بينهما؟ يجيبنا غليون "إنهما نظريتين متعارضتين على طول الخط، وإنّه من المستحيل تصوّر إمكانية التوفيق بينهما، فما يعتبره الفريق الأول سبباً في النهضة يتعبره الثاني علة الانحطاط والانحلال، وما ينظر إليه الثاني أساساً للتقدم والانطلاق والانبعاث يراه الفريق الأول عقبةً أمام كل نوع من أنواع التغيير الإيجابي".

إن فجوة الاستحالات التي يقع فيها العقل العربي لا تنم عن قصوره أمام عقل الأغيار إطلاقاً، فهذه نتيجة واهية ومؤدلجة لتبرير العجز أو التمايز، فالاستحالة هنا نابعة من المنهجية والعملية التي يسخدمها العقل لتحقيق النهضة أو الحداثة، ومنع الفكر من فهم الواقع وفهم الممارسة الاجتماعية فهماً موضوعياً وسليماً يأخذنا إلى إشكالية الفكر والسياق التي وقع بها أطراف الصراع وراح ضحيتها المجتمع عامة.

المحنة في الوعي العربي آن لها أن تندثر، آن للعقل العربي أن يخرج عن كل المتوقع ،عن التلقين والتقليد، آن له أن يعلن ثورته على الماضي والحاضر نحو المستقبل الذي يحدده هو بنفسه.

لا يمكن أن تتحقق الحرية للإنسان العربي المستبَد به في جميع الجوانب الحياتية بلفظ مصطلح والمطالبة به آناء الليل وأطراف النهار، كذلك الديمقراطية والمدنية والليبرالية والعَلمانية والاشتراكية… الخ. إن المفاهيم الفكرية والغايات النبيلة والمطلب الرئيس "الحرية" الإنسانية لحياة المواطن تكمن وتتحقق في أبهى صورها من خلال الطبع والممارسة لا يوتوبياً فقط.

ويتأرجح التياران بين المماثلة والمشابهة دون المعاصرة، المشابهة التي تقتل الإبداع وتنفي الذاتي وما لم يكن موجوداَ لدى الغرب وموجود عند العرب ليس إلا من التراث الزائف المتخلف، أما التراثيون من جهة أخرى يعتبرون كل ما عند الغرب هو محرم وما ورثوه عن الأسلاف هو الحق فقط، في حين هم أنفسهم خارج التراث وسيرورته التاريخية يريدون أن يقحموا العالمين والشعوب به بخطابٍ إيديولوجي بحت، وينصبون أنفسهم أنهم التراث ولا يظهرون من التراث إلا ما يريدونه، ويحاسبوا تارةً الأسلاف على أخطائهم كأنهم عزلوهم عن زمانهم ومكانهم .

هذه المحنة في الوعي العربي آن لها أن تندثر، آن للعقل العربي أن يخرج عن كل المتوقع ،عن التلقين والتقليد، آن له أن يعلن ثورته على الماضي والحاضر نحو المستقبل الذي يحدده هو بنفسه.
ماذا بعد الوعي بالمشكلة؟ ما هو المخرج من كل هذه الدوامة التاريخية التي وقع فيها العقل العربي بكل توجهاته وتيارته؟ وأين يكمن مفتاح حل هذا المأزق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.