شعار قسم مدونات

النّاسُ للنّاس والكُلُّ لله

blogs - hand
لِأنَّ تمام الفِطنة مُقدَّم على حُسْن الظنّ، ولأنّ الكَمال بعيدُ المَنال في حقّ بني الإنسان؛ فإنّني لا أصدِّق، وأدعوك ألّا تصدِّق، مَن يَصفك بأنّك نابغة عصرك أو أَوْحد زمانك أو فلْتة أيامك أو عظيم جيلك، أو ما هنالك مِن أوصافٍ ذات بريق يخلب اللبّ ويُضخِّم (الأنا)، وذات شعاع ينضح بالمدح الذي أكل على موائده الشعراء ويفيض بالثناء الذي جُبِلت على حُبِّه النفوس وتَشنَّفتْ بسماعه الآذان… إذْ لا أَعرَف بالإنسان مِن نفسِه ولا أَخْبرَ به مِن ذاتِه، وما خَفِي كان أعْظم، وكان الله بالسرِّ عليما.

ففي الوقت الذي يكون فيه شخصٌ ما متفوِّقا أو نابغة أو جميلا أو عظيما في جانب، فإنّه بالتأكيد يكون غير ذلك في جوانب أخرى، كما يكون هنالك على الشاطئ الآخَر مَن هو متفوّق أو نابغة أو جميل أو عظيم في تلك الجوانب الأخرى، وتلك لَعَمْري هي القسمة الإلهية العادِلة والتدبير الرباني الحكيم الذي يَشدّ الإنسانَ للإنسان ويُسخِّر البشرَ للبشر؛ باحترام لا احتقار فيه، وبتواضع لا كِبْر فيه، وبتعاون وتَرابُط يقود مركب الحياة بأمان واقتدار، ولِهذا عندما سمع أحدُ السلف رجلا يدعو ويقول: اللهمّ لا تحوجني لأحد مِن خلقك، قال له، ما هكذا يكون الدعاء فإنَّ المرء لا بد أن يحتاج لغيره، ولكن قل: اللهمّ لا تحوجني إلى شرار خلقك.

لا أزال أذكر احتداد أحد المرضى البسطاء على طبيبه المعالِج، وقوله له "إنك هنا لتخدمني"، وكيف احمرّ وجهُ الطبيب وانتفخت أوداجُه وعلا صوتُه وكأنه نارٌ ساكنةٌ أُلقِمت حطبا، رافضا فكرة خدمة البشَر للبشَر.

ومِن هنا كان مَطلَب العدالة التي تَضْمن المساواة وأهميّة الاختلاف الذي يُولِّد الاتّفاق، إذْ لولا اختلاف القدرات لَتعطَّلت عجلةُ الحياة واختلّ توازنها وما تكامَلَت فسيفساؤها، ولولا تفاوُت الحظوظ والأرزاق لما جرى نهرُ التعارف ولأصبحنا جزرا منعزلة تنادِي ولا مُغيث وتَطلب ولا مُلبِّي، فهنا ضعيفُ عقلٍ ولكنّه قويّ البدن، وهناك دميمُ وجهٍ ولكنّه ذَرِب اللسان، وهنالك قليلُ مالٍ ولكنّه كثير الولد، وبهذا يَحتاج هذا لذاك ويَحتاج ذاك لهذا، وتصبح الدنيا طريقا ذي حارتيْن وحَبلا ذي طرفيْن، وكأنّها رواية تَوزَّعت فيها الأدوار بعناية، دون أن يَخطف أحدٌ نجوميّتها ودون أن يَبتلع أحدٌ كاميرتها، فما يَملكه هذا مِن براعة يَمتلكها آخَر ولكن بصيغة أخرى ومُسمًّى آخَر، وذلك حتى تتساوى الفرص وتَتوازن الكِفَف ويَتماثل المجموع؛ فلا يَحتجّ أحدٌ على الله بضعف حظوظه وقلّة حيلته، كما حدث مع جمْعِ الفقراء الذين اشتكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ضيق ذات اليد والعجز عن الإنفاق كما يفعل الأغنياء، فدلَّهم -صلى الله عليه وسلم- على التسبيح والتحميد والتهليل الذي يطيقونه ولا يُفوّت عليهم الأجرَ والمَثوبة.

ألَا ما أَشبهَ حياة البشَر بأعضاء الجسد، فهذه يدٌ تعمل وهذا عقلٌ يفكِّر، وهذه قدمٌ تسعى وتلك عينٌ تبصر، وتيك أذنٌ تسمع وذاك جِلد يحسّ، ولا فضلَ في هذا لليد على الرِّجل ولا للعيْن على الأذن ولا للجِلد على العظم، إذْ ما يتفوّق فيه الجِلد يعجز عنه العظم وما تتقنه الأذن يستعصي على العين، وقِس على ذلك الطبيب الماهر في علاج المرضَى ولكنّه جاهلٌ في إصلاح الحذاء، والمهندس القدير في بناء الأبراج ولكنّه عاجزٌ أمام طلاء جدار، والمثقَّف الحاذق في المعارِف والعلوم ولكنّه تلميذٌ بين يدي الخباز والنجار والحدّاد، بما يعني أنَّ كلَّ الأعمال شريفة ورفيعة مهما كان مُسمَّاها، وأنَّ الكل مُسخَّرٌ للكلّ والجميعَ خَدَمٌ للجميع، وفي هذا يقول حكيم الشِّعر العربي (أبو العلاء المعري):
"الناسُ للناسِ مِن بَدْوٍ وحاضِرةٍ *** بعضٌ لبعضٍ وإن لم يَشعروا خَدَمُ".

وبهذا فدرجات البشَر ما هي إلّا منازل متجاوِرة ورؤوس متساوية، يؤدِّي فيها كلُّ فرد ما وُكِل إليه مِن مهامّ، ويستمد قيمتَه ممّا يُحسنه ويتقنه، دون أن يتمايز البشر إلى سادة وعبيد ودون أن يمُنَّ إنسانٌ على إنسان فيؤذيه، أو يَستغلّه فينتهكه ويَمتصّ دمَه… وهو ما زادَه (ابن كثير) توضيحا في معرض تفسيره لقول الحق جلّ وعلا في سورة الأنعام: "ورفَع بعضَكم فوق بعضٍ درجاتٍ لِيبْلوَكُم في ما آتاكُم" فقال-رحمه الله-: "أيْ فاوَتَ بينكم في الأرزاق والأخلاق، والمحاسن والمساوئ، والمناظِر والأشكال والألوان، ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحَنكم به، فيُسأل الغنيُّ عن الشكر والفقيرُ عن الصبر".

ورغم ما في التسخير مِن سُنّة كونيّة عامّة، يَخدم فيها الجمادُ النبات ويخدم النباتُ الحيوان ويخدم الجمادُ والنباتُ والحيوانُ الإنسان، ثمّ يَخدم الإنسانُ أخاه الإنسان في علاقة تَبادُليّة تَكافُليّة، حتى قِيل إنَّ سيّدَ القوم خادمُهم وإنّ أميرَهم هو مَن يرعاهم ويقوم على شؤونهم، فإنّني لا أزال أذكر احتداد أحد المرضى البسطاء على طبيبه المعالِج، وقوله له "إنك هنا لتخدمني"، وكيف احمرّ وجهُ الطبيب وانتفخت أوداجُه وعلا صوتُه وكأنه نارٌ ساكنةٌ أُلقِمت حطبا، رافضا فكرة خدمة البشَر للبشَر وآخِذا إيّاها على مَحمَل الإهانة ومعنى الانتقاص! وصدق ربنا العظيم إذْ يقول: "نحن قسَمْنا بينهم مَعيشتَهم في الحياةِ الدُّنيا ورفَعْنا بعضَهم فوق بعضٍ درجات ليتّخِذَ بعضُهم بعْضا سُخْريّا" الزخرف 32.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.