شعار قسم مدونات

المنفى وسرديات الهويات المرتحلة

blogs - home marche
منذ كان المنفى حكاية آدم وحواء، وسقوطهما الأخير من الفردوس، بعد أكلهما من الشجرة المحرمة، صار المنفى مجاز المصابين بلعنة السؤال والخطيئة الأولى، والبحث عن الحقيقة، والتماهي مع صلصال الجذور والتكوين وبدء الخليقة في تجلياتها المعرفية والثيولوجية. أما تاريخيا وأبستومولوجيا، فقد شكل المنفى وعيا حداثيا لكثير من الكتاب المعاصرين والقدامى، فلقد طرد الشاعر اللاتيني أوفيد من روما زمن الإمبراطور الروماني أوجستس، وكان الفيلسوف اليوناني ديوجين منفيا، والشاعر الجاهلي ثابت ابن أوس الأزدي الملقب "بالشنفرى" كان حفيد الصحراء ورفيقها.
 
وكان المنفى حليف العشرات من الكتاب والمفكرين والفنانين والمبدعين، والمصلحين والمجددين، وكذلك كان مصير هيمينغواي وإزرا باوند واللورد بايرون وأورباخ وأدورنو ونيتشه وإدوارد سعيد وأنور عبدالملك ومحمود درويش وسليم بركات واتشيبي ونورالدين فارح، وشوبنهاور وكثيرين من صناع الفكر والمعرفة.

عموما، لا أظن أن المنفى رغم عذاباته التي لا تحصى، وهستيريا اللامكان الذي لا يختزل محض انفصام روحي وجسدي وفكري عن العالم والوجود، بقدر ما هو مختبر الوجود الأكثر فاعلية وخصوبة، والأكثر تعقيدا أمام مواجهة الذات والوطن والعالم، وأمام الحيوات التي يجترحها الفنان والكاتب والسياسي والمناضل. المنفى هو تعدد الهوية الأكثر قدرة على التحرر من وهم القوميات، وخرافة العادات والتقاليد، وجغرافيا التاريخ.

لا نريد السقوط في فخ المشهد الكوني ونحن لم نبرح مكاننا، نراقب، نشاهد، نتفرّج على مسرح الدم والاغتصاب والترويع، ثم نعود أدراجنا كأن شيئا لم يكن.

المنفى رحم خصب للخيال والتجدد والانعتاق من الآيدولوجيات الضيقة. ربما هو الخيال الذي يدفعنا لمواجهة العالم الواقعي والافتراضي، وهو الذي يمنحنا فسحة شاهقة لمراجعة الماضي الثابت ورفض الحاضر المتوحش، واختراع الغد الحالم:

الخيال الذي يجر عربات القصيدة خفيف كالمجاز، مكثف كالليل ماذا يعني أن تحاور النافذة والستائر المشجّرة بلون القرميد ورائحة الزعفران؟ ماذا يعني أن تكون صديقا استثنائيا للسناجب التي علمتك الخفة ورشاقة التأمل؟ أن تتماهى مع الغرباء الذين تلتقيهم صدفة في المطارات المكتظة بمقاهي ستاربكس اللعينة ومطاعم ماكدونالز ورائحة الصعاليك البحارة وهم ينسلون من جيوب مقديشو والخرطوم وغزة وبنغازي، ثم تلتقيك امرأة اسكتلندية تطرح عليك التحية بلكنتها القحة، وتبتسم كما يفعل الأطفال نهار العيد، ثم تصيران نهبا لحديث يمتد ساعات وساعات… تبكيان معا، تكركران كما يفعل مجانين سان فرانسيسكو، تلعنان المستشرق الجنرال معا، ترسمان شجرة الأرز على طاولة المقهى، وتغنيان أغنية البحارة القديمة، ثم تمضيان كل في طريقه، ثم تلتفتان فجأة قبل الرحيل "وفي عينيكما دمعة تسح على خديكما، وابتسامة صفراء، وخيبة أمل بحجم كل المدن التي ضاعت وكل العشاق الذين أصابتهم لعنة المطارات قبل الوصول"… تمضيان وكأن شيئا لم يكن!

العقلاء يحسبونك مجنونا أصيب في عقر عقله! والمجانين يحسبونك عاقلا أصيب بداء الشعر والمنفى!
ماذا يصنع الخيال في زمن الكارثة؟ يبدو السؤال للوهلة الأولى ترفا جماليا أمام كل هذه الفوضى التي يعج بها العالم، وأمام كسر الإرادة، كما يسميه الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. ماذا يمكن أن نصنع وقد صرنا نهبا لكل هذه المنافي الداخلية والمنافي الخارجية التي تلتهم السوريين واليمنيين والعراقيين والليبيين بعد الثورات العربية، والتي التهمت من قبلهم الفلسطينين في سياق تاريخي مختلف.

ربما للمنفى ملذات لا تحصى، وفي المنفى أوطان لمن لاذ بالغد المحمّل بالأمل والتمني، أليست الأرض منفانا القديم الجديد! ولعل صاحبنا الشنفرى كان نموذجا لهذه الصورة المكثفة للشاعر المنفي بين أهله، والمغترب في عقر داره، فوجد في الصحراء وحياة الوحوش بديلا يروقه:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزّل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرىء سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
الذات المنكسرة ما بعد الثورات العربية:

 
هل تتقمّص الضحية جلادها؟ ليس من صالح الضحية أن تبقى طيلة الوقت مكتفية بدور الضحية من خلال الجلوس في كهف المقهورين في الأرض، واقتراف اللطم والرثائيات الهشة.

الآن وبالتحديد علينا جميعا أن نعيد قراءة هذه الذات المهزومة فينا وحمولة المنافي التي تحاصرنا، والتي تجلّت في حالة الذروة بين صخب الثورات وعنف الدكتاتوريات الفاشية. نحن مطالبون بمراجعة الذات المنكسرة، والتي صارت منذ عقود سلعة رخيصة يتاجر بها في سوق الوطنية الفجّة وشعاراتها الهشة التي لا تقوى على مقاومة قرار واحد من الناتو، أو حتى صنع قرار بمعزل عن الإمبراطوريات الكبرى، أو السرديات الكبرى.

لا نريد السقوط في فخ المشهد الكوني ونحن لم نبرح مكاننا، نراقب، نشاهد، نتفرّج على مسرح الدم والاغتصاب والترويع، ثم نعود أدراجنا كأن شيئا لم يكن.. نقبل زوجاتنا، ونمارس ذكورتنا الفضفاضة بكل رطانة وتبجّح، ونصرخ عاليا في وجه شاشاتنا المفترضة وفي حناجرنا المختنقة مرارة الصبّار، ثم ندعي قدرتنا على أن نكون طبيعيين في واقع غير طبيعي، ونجأر ملء كذبتنا المنتفخة أننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا دعاة الحضارة الإنسانية…

لم يعد هنالك متسع للسقوط أكثر في مسرح اللطم والشتم والعواء والنحيب لأننا مستهلكون حتى النخاع، منهكون روحيا وفكريا وحضاريا لاكتشافنا متأخرين أن الذات الجمعية هي الموضوع الذي جرّنا إلى الهاوية والذات الفردية نكرة! لم تعد هذه الأجيال تؤمن بكل هذه الأصنام المقدسة التي تحكم بالسوط والرصاص، ولم تعد تؤمن بكل النخب الدينية والفكرية التي تبارك يد القناص باسم الله وباسم الوطن… هذا النفق المظلم في صدورنا يتسع أكثر من متاهة بورخيس يا سادة وفي البياض تنقشع كل الدروب الضبابية محمّلة بأكفاننا التي تنتظرنا رغما عنا.

 

هل تتقمّص الضحية جلادها؟ ليس من صالح الضحية أن تبقى طيلة الوقت مكتفية بدور الضحية من خلال الجلوس في كهف المقهورين في الأرض، واقتراف اللطم والرثائيات الهشة، وتشيء الذات كلوحة رسمها فنان هاو يحاول من خلالها استعطاف ذائقة القراء. تستطيع الضحية أن تحاصر فكرة الهامش والمركز من الداخل: ففي كل سطر كان يكتبه محمود درويش، كان يعتقد أن الحصار يتراجع سينتميترات معدودة، من باب تحويل الألم لفكرة جمالية وثقافية تقاوم نقاط التفتيش والجدران العازلة والمنفى المتدرج في الداخل والخارج.

 
 
الضحية قادر على اجتراح طريق النحل في رحلته صوب النجاة والوطن المتخيل.. ما تفعله سلالم سليم بركات الرملية أقرب لهذا، وما يفعله نور الدين فرح في تحويل التغريبة الصومالية لرواية شتات عالمي يجعلنا نتذكر المقاومة خارج المكان وفي عقر الشتات. التوقف عن الكتابة واختراع الخيال التوليدي موت ثقافي لا يقل خطورة عن موت المكان في أرشيف التاريخ والجغرافيا.
  
نحن نولد على دفعات…
تطحننا رحى الحياة والأمل
نولد على دفعات
نصبح غيرنا
نتحرر من عبء الهوية ووحل الكناية
نسقط في جب المحبة رغم إرادتنا
نعيد ترميم الماضي والغد المتردد
لا شيء يبقى حرا في صورة الطفولة البكر
نحن نتغير أكثر مما نتخيل

الهوية حظ الطيور من أعشاشها
هي صورة الحبيبة المخبأة في ألبوم الصور
هي غربة الروح في صورة جلادها
هي انحسار الضوء في بيوت الفقراء
هي اشتهاء الموت قبل أوانه

من سواك وخبأ السر القديم في جرار المجاز
من ألهم الصعاليك خبز أشعارهم
من دس السم في جيوب العسكر
يا صوت الله المعتق في المآذن
يا شبق اللغة النافر في عروقنا
ما أضيق الجغرافيا
ما أكبر الخيال
ما أضيق الهوية
ما أكبر الإنسان

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.