شعار قسم مدونات

وبعض التيه محمودٌ عقباه

blogs - lost
لم أُدرك يومًا حقيقة الضياع، كنت أظّنه محصورًا في فقدان الطائرة الورقية بعد إطلاقها عاليًا في السماء، أو في موت ذاك العصفور الصغير بعد أن تعرّض لجريمة قتل نكراء، أو أن يسرق زحام السوق التجاري يد والدتي منّي، وبعد مدّة، ظننته محصورًا في علامة الثانوية العامّة التي حالت بيني وبين تخصص جامعيّ آخر أحلم في دراسته.. لكنني كبرت وأدركت الحقيقة، نحن نشعر بالتيه عندما تغيب حقيقتنا عنّا، فننكب على الطريق غير مدركين لنهايته، لماذا نحن هنا؟ ما الذي نلهث خلفه؟

يتّجه البشر عمومًا لاعتبار التيه قيمة سلبيّة، وأنّه لا بدّ أن يكون الإنسان واضح الوجهة، يُحسن السير على الصراط لا يحيد عنه أبدًا، وإن قابلتنا أيّ من هذه اللحظات يجب تفاديها والسعي للتخلّص السريع منها… ولأنّنا نخشى التيه، نجد أنفسنا نتّجه نحو الاندماج في حياة مستعارة لا نملك شيئًا منها، أينما نجد الأديب نتّجه نحو الكتابة، وأينما وُجِد الرسّام تنطلق عاطفتنا مندفعة نحو الريشة، وأينما حلّ الموسيقيّ رقصت أناملنا دون إذن منّا… لكن هل يستحق التيه هذه الرهبة؟ أن نصنع لأنفسنا حياة تقودنا نحو ذات شخص آخر، أفضل من أن نصنع حياة تقودنا نحو ذاتنا؟

إمّا أن تنجح وإمّا أن تضطرّ لإعادة الكرّة بأسلوب جديد، وطالما أنّ احتمال قتلك غير وارد، إذًا لا داعي للخوف من المخاطرة ودَعْ الحماس يأخذك كموجة ثائرة.

أعتقد أن الألم الذي نتجرّعه في التيه، أجزى لنا من السعادة المزيّفة التي تغمرنا عند تحقيق نجاح لا يمتّ لنا بصلة… تقول إليف شافاق: "عندما تجد القابلة أن الحبلى لا تتألم أثناء المخاض فإنها تعرف أنّ الطريق ليس سالكًا بعد لوليدها، فلن تضع وليدها إذًا. ولكي تولد نفس جديدة، يجب أن يكون ألم"، وهذا جوهر التيه… نحتاج بين حين وآخر أن ننفض أيدينا من كلّ شيء، ونتحرّر من موجة تجرفنا نحو إعصار يقودنا من الصحو إلى النوم، أن نتخلّى عن عملنا ليوم، أن نبتعد عمّن نحب ليوم، أن نختبر حقيقة كلّ ما نركض خلفه.

جِدْ وقتًا للتفكير وسافر في داخلك، لا تهتم إلى أين سيقودك الطريق، بل ركّز على الخطوة الاولى، فهي أصعب خطوة، يجب أن تتحمل مسؤوليتها، وتذكّر كم كلمة حقّ أردت قولها، كلّ إضافة مهمّة أردت الإدلاء بها في اجتماع العمل، كل مشروع صغير عقدت العزم على تنفيذه، لكنّك لم تفعل! تذكّر جيّدًا كم مرّة تمكّن الخوف منك وحارِبْه!

روّض نفسك بالقوّة واستفزّ الأسد الرابض في داخلك. حينها أغلق الباب أمام مشاعرك ولا تسمح لها أن تضعك في مواجهة أمام طريقك إلى ذاتك… تقول ميل روبنس: "إنّ المشاعر هي في الحقيقة من يُوقفنا عن القيام بأمور نريدها جدًا".

النتيجة لن تحتمل سوى خيارين: إمّا أن تنجح وإمّا أن تضطرّ لإعادة الكرّة بأسلوب جديد، وطالما أنّ احتمال قتلك غير وارد، إذًا لا داعي للخوف من المخاطرة ودَعْ الحماس يأخذك كموجة ثائرة تحاول الانفلات من البحر لتطير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.