شعار قسم مدونات

نوكيا.. والحنين إلى الماضي

blogs- نوكيا
خلال الأسابيع الماضية أعلنت الشركة المنتجة للهاتف النقال "نوكيا" اعتزامها إعادة انتاجها للجوال 3310، الهاتف الذي أنتجته وطرحته في السوق قبل حوالي ثمانية عشر عاما!

تلقّف الناس هذا الخبر بكثير من اللهفة والحماس، لم تكن هذه اللهفة إلا ترجمة لحنينهم إلى الماضي، وتوقهم لكل ما ارتبط بماضيهم وذكرياتهم، تلك الفترة التي عاشوها بصحبة هذا الهاتف، رفيقِ الدرب وصديق الطفولة .


باستثناء فئة معينة، أتوقع أن يقتني ملايين الأشخاص، بمختلف مستوياتهم المادية، هذا الهاتف؛ سيحاولون من خلاله استذكار ماضيهم، واسترجاع زمن الصبا والطفولة، الفترة التي لم تكن تكاليف الحياة قد أرهقتهم، ولا المسؤولياتُ قد أثقلت كواهلهم، 
ذلك الماضي، وتلك الذكريات التي، وإن لم تكن ضاربة في القدم، لكنها كانت الفترة الأنقى في حياتهم. 


لا داعي للمقارنة ولا للإيغال فيها، النتائج ستبعث على الأسى والحسرة، والتراجع لن يتوقف، مالم نعد ترتيب حياتنا بالكامل، أما ماضي ال "نوكيا" فلم يعد مقلقا، بقدر ما يقلقنا أن يأتي يوم نحنّ فيه إلى زمن الهواتف الذكية التي بين أيدينا الآن!.

سيتذكر السوري عندما كان طفلا أو فتى يافعا يلعب بهذا الجوال لعبة "الأفعى" في شقته أو ساحة منزله، (أرض ديار) كما يسميها أهل البلد، تلك الفترة التي كان لديه فيها وطن ومأوى، قبل أن يقرر "الأسد" تشريد الشعب وحرق البلد.


سيسترجع اليمني ذلك الزمن الذي كان يؤلف فيها نغمة موبايله بشكل يدوي، تلك التوليفة الموسيقية التي مثلت منجز طفولته الأشهر، قبل أن يكبر ليتم اعتقاله وتعذيبه أو ملاحقته وتهجيره!


لم يكن يعلم ذلك الطفل بأنه سوف يكون مشردا أو مهجرا! 
نحنُّ جميعا إلى تلك الفترة التي لم نكن قد سمعنا فيها عبارة (السوريون في الشتات) و (اليمنيون في المخيمات) و (المصريون الملاحقون) و (العرب اللاجئون)، وقبل أن تقرر الأنظمة السياسية معاقبة شعوبها وتشريدهم!


أما الفئة التي لن تشتري هذا الهاتف، فيقول أحدهم: أريد أن أشتريه، ولا مشكلة في سعره، لكني لن أشتريه؛ لا أريد أن أنكأ الجرح، أو أبعث الحسرة في داخلي من جديد، هذا الموبايل يذكرني بكل شيء، يربطني بكل الأحداث والمواقف في وطني، أريد لجرحي أن يلتأم و لا أريد إحياءه!.


الآخرون من مواطني الدول العربية والخليجية المستقرة، يحنون، أيضا، لهذه الهواتف؛ بعد أن وجدوا أنفسهم في ورطة كبيرة مع الهواتف الذكية، الهواتف التي كانت ذكية بما يكفي لسرقة أثمن ما لديهم، وهي أوقاتهم، وبعد أن وجدوا أنفسهم مصابين بجنون تطبيقات الأندرويد، وحمى برامج الآي أو إس!
كان ذلك ال"نوكيا" معقولا، يستقطع وقتا منطقيا في استخدامه، كان بسيطا لكنه كان أكثر متعة!


نشعر أحيانا أن "الهواتف الذكية" حولتنا إلى "مخلوقات غبية" تقدمَتْ على حساب قدراتنا العقلية والذهنية، وجعلت منا مخلوقات "متبلّدة" لم تعد تشعر بحجم الكارثة المتمثلة بهدْر آلاف الساعات سنويا دون إنتاج فكري أو مادي!


نتسمّر أمام الهاتف الذكي لساعات طويلة يوميا، نتسكع في أزقة تطبيقاته وبرامجه الاجتماعية، وننبذ الكتب المختصة بتكوين الوعي، وبالتالي لم ننعد ننتج فكرا!


قرأت تقريرا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) يقول إن اليابانيين لا يفضلون قراءة الكتب الإلكترونية بل يميلون لقراءة الكتب الورقية، وإن متوسط ما يقرأه المواطن الياباني (في زمن الهواتف الذكية) هو خمسة وثلاثون كتابا في مقابل ربع صفحة يقرأها المواطن العربي سنويا.


لا داعي للمقارنة ولا للإيغال فيها، النتائج ستبعث على الأسى والحسرة، والتراجع لن يتوقف، مالم نعد ترتيب حياتنا بالكامل، 
أما ماضي ال "نوكيا" فلم يعد مقلقا، بقدر ما يقلقنا أن يأتي يوم نحنّ فيه إلى زمن الهواتف الذكية التي بين أيدينا الآن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.