شعار قسم مدونات

حيوات الجنبات

blogs - street

على جنبات الطريق توجد حيوات، بعضها يولد، البعض الآخر يموت، وأخرى معلقة. لهذه الحيوات قصص قد لا يظهر لنا منها عندما نعبر بها سوى فصل من فصولها التي تختفي وراء الطريق الطويل الذي مررنا به قبل أن نلتقيها، لكنها تعبر عن جزء من الكل الذي لن يكون ما لم تتكوم هذه الأجزاء.

 

الجزء، هو ملامح رجل يلبس فوق ظهره كل ما يملكه محتميا من البرد بليل ممطر طويل قرب سكة حديدها أصقع من الصقيع، وراء هذه الملامح قد توجد ابنة تنتظر الصباح لتراه كي تستمر في الذهاب إلى مدرستها، وقد توجد امرأة تنتظر رجلها الذي يفعل ما يفعله لأجل خبز ستعجنه قبل أن يفتح باب البيت، وقد توجد أم تُبقي عينا مفتوحة ترقب بها دخول ولد أتعبه التعب.

 

الطريق هو المحطة التي تتغير تبعا لزمن مرورنا بها، ولطقس جوها، وللرائحة في زواياها، وللصوت المنتشر منها. ولأن الجنبات هي بنات هذا الطريق، ستبقى في الذاكرة وإن طال بقاؤها.

والجزء، هو الذي ضحكت فيه طفلة ترعى غنما وفي يدها عصا لوحت للراكبين وبدت ابتسامتها صافية كالسماء التي كانت فوقها. قد تكون الابتسامة فرحة طفولة خالية من انشغال بالٍ بلعبة الكترونية، قد تكون ابتسامة طفلة ترنو إلى حلوى مشروطة بحدوث أمر لا يد لها فيه، قد تكون ابتسامة حلم بسيط سيحملها إليه القطار الذي يمر بها.

 

من مجموع الأجزاء هذه، افترشت أسرة ظل شجرة وسط تربة حمراء تتظلل من حياة خنقتها بعيدا عن رائحة الأرض، أو تتظلل من هموم حياتية تحلق فوقها باستمرار، وربما تتظلل من مُرتقب تراه ولا تريد رؤيته.

 

جزءٌ آخر، يُظهر ثلاثة أحياء جد قريبين من السكة، عبروها نحو اتجاههم للتو أو يكادوا يفعلون. هم عبروها أو سيعبرونها ليس حبا في المغامرة حسب ما توحي به وجوههم المكتظة بالبؤس، إنما بحثا عن المقومات ليضمنوا بقاءهم، حياتهم، وجودهم في هذا العالم.

 

كجُزءٍ متخفٍّ، هنالك وراء كل ضوء نابع من شُرفة "فيلاّ" أو نافذة بيتٍ أحياء، ليسوا كلهم ينتمون إلى تلك الفيلا التي يسكنونها وليسوا كلهم ينتمون إلى ذلك البيت الذي يحتويهم. الحياة تبدو للعابر بالشُرفة من هندستها، من حجمها، من إضاءتها، من خلوها أو احتوائها لأصيص نبتة أو أكثر، الحياة ستبدو للعابر من حجم النافذة، من ستارتها المنسدلة أو المُزاحة، من علوها وتصميمها وظلال المطلين منها.

 

الجنبات هي الأجزاء التي لامستنا حين تركت في ذاكرتنا ما نكتبه عنها وتركت تَتِمَّات لم ولن نعرف بها غالبا، تصادفنا في طريقنا ولا تكاد تأخذ منه سوى لحظة، لكنها تتلاحم بلحظات أخرى شبيهة فتصنع عبورنا. لأن الطريق هو المحطة التي تتغير تبعا لزمن مرورنا بها، ولطقس جوها، وللرائحة في زواياها، وللصوت المنتشر منها. ولأن الجنبات هي بنات هذا الطريق، ستبقى في الذاكرة وإن طال بقاؤها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.